يقول المعلّم ميشيل فوكو أنّ أكثر الشعوب تحريمًا لشيء هي أكثرها هوسًا به. تبدو تلك العبارة إذا ما أضيف إليها ما يلزم من اعتبارات اجتماعيّة وسياسيّة مدخلاً ملائمًا لفهم ما وراء العديد من أفعال الحظر والمنع والتغطية التي حدثت وتحدث في الوطن العربي. ولأنّ الوطن العربي كبير، مساحةً ومفهومًا، فستحصر هذه المقالة مُبتغاها في تسليط الضوء على «تشكيلة» من الفعاليّات والقرارات التي اتخذتها حكومة حماس في قطاع غزّة أو التي شجّعت على اتخاذها، والتي يجمع بينها مرامها الذي يشمل القمع والتنميط والالغاء ودعوة المسلمين إلى الإسلام، ومحاولة تحليل تلك القرارات، والحض على رفضها وتغييرها وإن بالقلب؛ أضعف الإيمان.
قبل الشروع في تناول تلك القرارات، باعتبارها عيّنة قابلة للدراسة، لابدّ من التنويه إلى أمرين لقطع الطريق على عشّاق الاستباقيّة وحرّاس الفضيلة الوطنيّة. الأمر الأوّل أنّ كاتب هذا المقال ليس مستشرقًا ولا يبتغي انتقاد سياسات الحكومة في غزّة كمحاولة التفافيّة لضرب حماس في صميمها؛ ميثاقها القائم على المقاومة. كاتب هذا المقال يؤيّد ويحب صاروخ حماس الذي انطلق من غزّة ليضرب تل أبيب. الأمر الثّاني أن الحجّة السمجة التي لا يملّ من البعض من تردادها، والقائمة على أنّ الحديث عن أمور من قبيل الحريّات الشخصيّة وحقوق الانسان ليست محلّ ترحاب إذا ما تعلّق الشأن بشعب يرزح تحت الاحتلال، انما هي حجّة قمعيّة (إن لم تكن فاشيّة) وتحمل في جوفها تباشيرًا بمزيد من القهر لشعب عنده ما يكفي من المنع والتقييد. لا يحق لأيٍّ كان أن يقول لفلسطينيّ في غزّة أن يمتنع عن التعبير عن استيائه ورفضه لمخرجات العقليّة الحمساويّة التي تحكم عمل حكومتها فقط لأنّ حماس مقاومة وبطلة وشوكة في حلق «الامبرياليّة». وبالمثل، لا يمكن التعامل مع الحكومة في غزّة باعتبارها حكومة عاديّة تحكم مجموعًا عاديًا من المواطنين. كلمة السر: الموازاة.
في جلسته المنعقدة يوم 13/11/2012 قام مجلس جامعة الأقصى بغزّة بإصدار قرار يلزم طالبات الجامعة بـ«اللباس الشرعي المنضبط» داخل الجامعة ابتداءً من الفصل الدراسي الثاني. القرار الذي صيغ في بيان وزّع ناشطون صوره على الشبكات الاجتماعيّة ليس تعديًا في نصّه وفحواه على الحريّة الشخصيّة فحسب، بل ويتضمن إجحافًا مركبًا بحق المرأة ويمدّ لسانه في وجه كل من هم يحلّقون خارج السرب. لا يوجَّه الحديث فيه إلى طالبات الجامعة، انطلاقًا من كونهن، كنساء، جزء أساسي فيها، بل إلى «بناتا الكريمات». فالمرأة حتّى وإن درست وتثقفت وتعلّمت ودخلت الجامعة ما هي، وفق أولئك، إلا أخت كريمة أو أمّ حنون. فلنتذكر أن قوائم الأسرى المفرج عنهم في صفقة التبادل الأخيرة التي رعتها حماس كانت تصف الجهة التي سيخرج إليها الأسير بـ«مدينته/بلدته الأصليّة»، في حين كان الوصف المستخدم للأسيرة المحررة: إلى البيت.
الأساس النفسي/الميثولوجي للقرار في سياقه القائم على اعتبار أنّ المرأة «عورة» لابدّ من التعامل معها بشكل أو بآخر هو نفس الأساس الذي يحكم العقليّة الاسلاميّة والخطاب الاسلامي المعاصر في عمومه: مرجعيّة النصوص، وأستاذيّة العالم. هناك آيات في القرآن تتحدث عن الجلاليب والحجاب، وهناك أوروبا بسافراتها وأمراضها المنقولة جنسيًا، القارة التي لا تريد شيئًا غير تدمير الاسلام والمسلمين، ولذلك فلابدّ من هكذا قرارات نحصّن بها أنفسنا. البيان، كما كَتبته ومن يقفون خلفه، لا يهتم بحقيقة أن العورة إنما هي مفهوم سيسيولوجي يختلف من حين إلى آخر ويعاد تشكيله في عملية تداخليّة مستمرّة، وأنّ لا جهة تحتكر حقّ التعريف والاجبار في هذا الاطار. والبيان إذ هو يعتبر أن «اللباس الشرعي المنضبط» يراد له أن يعكس «المنطق الديني لإسلامنا والحضاري لمجتمعنا» فإنما يلغي شطرًا واسعًا من تأويلات ذلك المنطق، وتجليّات تلك الحضارة.
ربّما يكون مفيدًا أن نورد في هذا المقام ما قاله الإمام الراحل محمّد عبده عن مسألة الحجاب واللباس الشرعي، لعلّ أولئك يدركون أنّ الاسلام ليس ورثة ورثوها، وأنّ «بناتهم الكريمات» لسن أوعية حمل ومضاجعة: «والحقّ أن الانتقاب والتبرقع ليسا من المشروعات الاسلاميّة لا للتعبد ولا للأدب، بل هما من العادات السابقة على الإسلام والباقية بعده، يدلّنا على ذلك أن العادة ليست معروفة في كثير من البلاد الاسلاميّة». من نافل القول أنّ اشارتنا إلى تأويلات مغايرة لما هو سائد من المدارس الفقهيّة الاسلاميّة، ومحاول ابراز نصوص مغايرة، والاستعانة بأئمّة من معسكر الحداثة، لا تعني أبدًا إسقاط المنطلق الفكري بأنّ كل ما تمّ الجود به في هذا الاطار يخضع بالضرورة والقطع للسياق التاريخي الذي جاءت فيه نصوص القرآن وأحاديث النبي، وطبيعة العصر الذي نعيش فيه اليوم.
وعلى نفس اللحن والمقام، تعزف وزارة الأوقاف التابعة لحماس. إذ قررت دائرة الأوقاف في المحافظة الوسطى قبل عدّة أيام الشروع في حملة توعويّة تهدف إلى «ترسيخ الفضيلة» وتستهدف الشباب من الجنسين للحد من مظاهر كالبنطلون «الساحل» وطريقة معيّنة من طرق ربط الحجاب. الواعظ نور عيد قال لإذاعة الأقصى متحدثًا عن الحملة: «لابدّ من تحديد الحلال والحرام في مسألة الملابس». نور عيد لابدّ سيكون سعيدًا لو تمّ إصدار كاتلوج يتضمن صورًا ورسومًا بيانيّة لما هو «حلال» وما هو «حرام» وفق فتاوى وخيال رجال دين السلطة الحاكمة الضحل. المختص بعلم الاجتماع قال أن «تلك الملابس صورة من صور الغزو الثقافي». يفترض الاسلاميّون، كما فعل كبيرهم سيّد قطب، أن أوروبا هي ما لدى التقدميين والعلمانيين العرب كي يقدموه، ولذلك فلابدّ من شيطنة تلك البلاد وكل ما هو قائم منها، رغم أنّ الاسلاميين أنفسهم إذا ما أرادوا إثبات حلاوة الاسلام وجماله إنما يشيرون إلى أنّه سبق «أوروبا» في إعطاء المرأة حقوقها والدفع باتجاه المساواة.
حملة ترسيخ الفضيلة التي هي «سلميّة» من حيث مظهرها ليست سلميّة في مضمونها على الاطلاق. نحن لا نتحدث هنا عمّا هو خطير بتوافق جمعي كالمخدرات، بل عن شأن شخصي بحت، ألا وهو المظهر الخارجي. هل يمكن لحماس أن تتقبّل حملة «سلميّة» تنصح بحلق اللحية لما لها من مظهر منفّر ولما تتسبب به من إعاقات عند الأكل؟ هل يمكن لها أن تتقبل حملة «سلميّة» للتعريف بحقوق المثليين؟ الاجابة معروفة وما «تنصح» به السلطة الحاكمة اليوم، ستغريها أدواتها غدًا لفرضه بالقوّة.
يمكن على سبيل التلخيص الاشارة إلى عديد من القرارات التي اتخذتها حماس منذ سيطرتها التامة على قطاع غزّة عام 2007 وحتى اليوم. بعض تلك القرارات أُعلن وجرى اتخاذه ضمن أروقة الحكم الحمساوي الرسميّة، وبعضها الآخر كان قرارًا غير مكتوب، إنما هو وحي يوحى. من تلك القرارات فرض الزي الشرعي المنضبط في المدراس الثانويّة الحكوميّة، وفرض الزي الشرعي على المحاميات وعلى زائرات المحاكم الشرعيّة، والقرار الغير مكتوب بالحد –إن لم يكن منع- كل مظاهر الاختلاط في الفضاء العام. داهمت قوّة حمساويّة تجمعًا مختلطًا لواحدة من فعاليّات احتفاليّة فلسطين للأدب العام الفائت وحاولت فضّها، في حين قطعت النور عن فعاليّة أخرى لأنّ الحابل بها اختلط بالنابل وجلس الشباب إلى جوار البنات يستمعون مستمتعين ومتحمّسين وفخورين بهذا الشرخ في جدار ما هو ممنوع وغير مستحب إلى ما لدى فرقة اسكندريلا المصريّة لتقوله.
قالت الناشطة الفلسطينيّة إباء رزق في مقابلتها على القناة الاسرائيليّة الثانية إبّان عدوان عامود السحاب: في أوقات كهذه، غزّة هي حماس، وحماس هي غزّة. من المهم اليوم وقد عادت التعدّيات الاسرائيلية إلى شكلها الناعم وصار حديثنا داخليًا يزعج بعض الفلسطينيين ويرضي بعضهم، من المهم أن نقول أنّ غزّة ليست حماس، وحماس ليست غزّة. غزّة التي كان فيها أكثر من سبع دور سينما قبل النكبة، وتحوي اليوم زاوية للصوفيين، وتتردد أحاديث عن اعتناق أقليّة من سكانها للمذهب الشيعي، ناهيك عن أن لفيفًا واسعًا من ناسها لا يحبّ التديّن أصلاً، لا يمكن لها أن تسقط في معركة الحريّات التي هي واحدة من معارك الحرب مع الاسلاميين معتدلين كانوا أم متشددين، لا يمكن لها أن تسقط في تلك المعركة دون “مقاومة”، ويا حبّذا لو انتصرت.
عزيزتي حماس، بعضنا لا يريد دخول الجنّة عبر الطريق الذي ترسمين أنتِ معالمه. بعضنا يمتلك ما يلزم من الوعي كي يقول للحكومة: لا أريد لكِ أن تحددي لي كيف أعيش حياتي. بعضنا «بيقاوم إسرائيل وبيشرب كاس»، وبعضنا يحلم ويسعى نحو مجتمع متصالح مع ذاته، مجتمع مفتوح على الممكن والابداع حيث يتجاور المسجد والمسرح والبار دون أدنى مشكلة، والله الموفق والمستعان.