ليس يُتماً أن أجالس روحي وحدنا؛ كالحزن اليتيم مثلاً إنما سكرة الصحة ولجت إلى بدني الشفيف، وغفوة فرح جاء على استحياء، الآن وحدي أجلس لا قوة لي ولا حول.
الجدران مشكلة بلون الخوف، ودقات الساعة الخشبية في الجهة اليمنى بغرفتي تغرقني في ضوضاء ثقيلة، تتابع عيناي قطرات المحلول المنحدرة من أسفل قاع البركان لفوهته، متدحرجة ككرة من اللهب تخترق أوردتي واحدا تلو الآخر، ترديني قتيلا، كمن أُسقطت عليه كومة من سكاكين حادة النصل مرة واحدة.
تسكن حينا دائرة الوجع لتتسع حدقتا العين عن آخرهما حرقة؛ لتتحولا جمرا متقدا بفعل جرعات الكيماوي المخصصة لي.
الأيام ليست تلك الأيام التي نعهدها فهي سلحفائية الزحف، وحادة الانتظار، هنا في مستشفى الأهلي الخاص في الخليل الوجوه متشابهة هي ذاتها، ولباس الأطباء هو كذلك، وابتساماتهم المتبادلة لا تتغير، وكأن ما يدور داخل المستشفى موصى به بكتالوج قادم من الصين، ترسل الشمس أشعتها، ويستقبلها الناس بتباين واضح، تطرق الممرضة باب الغرفة تتبع دخولها موجة من الأسئلة الباهتة، تفصل بين كل سؤال وسؤال ابتسامة، الفحص اليومي الصباحي والأدوية المعتادة في مواعيدها، أما عامل النظافة فيحاول -كلما دخل غرفتي- إخفاء نظرات الشفقة على شاب في ريعان شبابه، التهمه المرض، وأحاله لشخص آخر، كما يحاول إخفاء نظرات الخوف من أن ينتقل إليه المرض كعدوى من نطق السلام.
لا تتغير الظروف والأحوال إلا بقادم جديد، أو بحالة وفاة انقض عليها السرطان بضربة خاطفة مباغته؛ ليترنح الجسد قبل أن يقع أرضا، ويدق جرس انتهاء الجولة بضربة قاضية.
أشغل نفسي كثيرا كم مر عليّ هنا؟! ينجح العقل حينا في التذكر، ويتقهقر أمام آفة النسيان كثيرا، فأنا بحالة متقدمة جدا من هذا الخبيث الذي أُكتشف فجأة، وبدون سابق إنذار، بعد سقوطي أرضا في ملعب كرة القدم الخاص بالمخيم؛ الذي أقطنه بعد تلقيَّ لكرة في معدتي، حينها اعتقدت -كما غيري من اللاعبين- أن الضربة لا تسبب كل هذا الوجع الذي ألمّ بي دفعة واحدة، لأنقَل للمركز الصحي التابع للحي، ثم يؤتى بسيارة إسعاف لنقلي لمستشفى الشفاء بغزة، لعدم مقدرة المركز الصحي على تشخيص الحالة، وبعد فحوصات طويلة، وساعات ثقال، تم التشخيص الأولي ثم النهائي يفيد بتهتك في خلايا الكبد، ناتج عن سرطان كان يهاجم الكبد من فترة، لكن في حالة عدم ظهور كما أخبرنا الطبيب، نعم .. كانت ضربة واحدة، تأتي قوافل الآلام بعدها مرارا وتكرارا، على ذات النهج تبدأ وتنتهي الحياة بضربة واحدة، قد تدفعك للحياة والقوة، أو للموت والهلاك.
بدأت رحلات العلاج بين مستشفى الشفاء ومستشفى الأهلي بالخليل بعد معاناة طويلة من استخراج نموذج رقم (1) الطبي، والذي يتيح للحالات المرضية من غزة الخروج للعلاج خارج الوطن أو في شقه الآخر، وكانت الحالة السياسية تلقي بظلالها على الحالة الإنسانية، كما غيرها من حالات وشؤون هذه القطعة المنكوبة.
نصائح الطبيب المشرف في شقي الوطن ملتزم بها، لكن للقدر أحيانا توجهات أخرى لا يمكن استبصارها، فنحرم من العلاج بشق الوطن الآخر، بسبب المراهقات السياسية بين سياسيي الوطن؛ لأحرم وآلاف غيري من مرضى السرطان من العلاج الكيماوي غير المتوفر بغزة، لتتفاقم معاناتي بوتيرة متسارعة، وليهاجمني السرطان دون هوادة، وكأني أقف أمام ملاكم مفتول العضلات، أتلقى منه الضربات تباعا، وأقصى ما يمكن أن أقدمه أن أبقى واقفا لأشعره بالغيظ.
أستيقظ ذات صباح لأستذكر أين أنا، وبعد تفقد الغرفة ونافذتها وابتسامات الممرضة المعتادة أطرق الرأس للأعلى محدثا النفس: أجل أنا في وحدة الحجر الصحي، خوفا مني أم عليَّ، ليس مهما، المهم أني نجحت في الوصول إلى هنا قبل 3 أسابيع، بعد مناشدات عدة ووساطات لتنحية ملف المرضى عن السقوط الأخلاقي والسياسي الذي يعصف بالوطن.
تحتم حالتي الصحية بقائي في مستشفى الأهلي بالخليل دون الرجوع لغزة، ولتكثف جلسات الكيماوي من قبل الأطباء، رغبة في محاصرة الكتل السرطانية، بعد أن تبين لهم أنه لا يمكن الاستئصال أو الزراعة لأسباب صحية ذُكرت ونسيتها، ماذا يعني أن يستهدف جسدك جرعات الكيماوي؟! لا شيء سوى أن يصبغ لون جسدك بين قاتم وفاتح أو يحرق ليتحول للداكن هل أحسست بألم الحرق قبلا! نحن نحرق من الداخل، أجل نحرق، يتحول جلدك ناعم الملمس الى صحراء قاحلة قاسية المعالم، هنا تباغتك الشيخوخة مبكرا، ولأني أصلع لم أكن أعر أمر تساقط الشعر اهتماما، بخلاف مريض كنت التقيه كثيرا في الممرات، كان يبكي شعره الناعم الجميل، مما انعكس على نفسيته بالسوء، ذات مرة استطعت الوقوف أمام المرآة في مواجهة نفسي؛ ليتسلل إليّ صوت أمي من مهاتفة الأمس: " كيفك يما وكيف حالك و شو عمل فيك الكيماوي؟!" لأرد ولا شي يما ولا شي.
في داخلي صراعان، أحدهما للموت، وآخر للحياة، ونفسي تغذيهما معا، والروح فيَّ تنازع لأجل الحياة، والخبيث يدفع كل ما يملك لأجل الموت، لأيهما الغلبة؟ يأتيني همس الدعوات أن الغلبة لأمر من أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.