إشارة بدء: القضيَّة في ساحة الجامعة
على غير ما جرت عليه العادة، وبدلاً من الذَّهاب نحو التَّأطير النَّظريِّ للسَّرديَّة الفلسطينيَّة «الممكنة» في ظلِّ ما تعانيه الأكاديميا الفلسطينيَّة من فوات في النَّظر، وندرة في التَّطبيق، وإفراط في التَّحليل السِّياسيِّ، وهوس في الأدائيِّة الفرجويَّة، والتَّكرار المبتذل ...، فإنَّ هذه الدِّراسة تُؤْثِرُ تقديم نموذجٍ تمَّ تجريبه في إنتاج معرفة فلسطينيَّة تحرُّريَّة، أسهمت ولا تزال في تدشين سرديَّة فلسطينيَّة ليست قادرة على التعامل مع السَّرديَّة الصُّهيونيَّة بنديّة فحسب، بل قادرة على بذِّها وتفكيكها. وعليه، فإنَّ هذه الدَّراسة، التي هي في صميمها مقاربة إثنوغرافيَّة-بيداغوجيَّة، ستتبَّع أوديسة ما يُعرف بمساق «القضيَّة الفلسطينيَّة» في جامعة بيرزيت كدراسة حالة لإمكانيَّة تدشين حكاية تاريخيَّة وطنيَّة في إطار أكاديميٍّ يشهد، حاله حال الواقع الفلسطينيِّ، مسار تحوُّلات يكاد يكون مطابقاً لمسار التَّحوُّلات السياسيَّة خارج إطار الجامعة، إذ هي منه، وهو منها: «منظَّمة»، و«سلطة»، و«دولة».
وقبل البدء برصد ملامح هذه الأوديسة، لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ وصف هذا المشروع الإثنوغرافيِّ لا يكتمل إلا بالحديث عن ثلاثة أجزاء أساسيَّة، تم إنجاز بعضها، ولا يزال البعض الآخر قيد الإنجاز. أمَّا ما تمَّ إنجازه، فهو الجزء المتعلِّق بوصف الجامعة كموقع لإعادة تدشين السَّرديَّة الوطنيَّة، من حيث إنتاج المعرفة على الرغم ممَّا يتنازعها من تحوُّلات سياسيَّة، ذاتيَّة وموضوعيَّة، كجامعة أقيمت ضمن، ولا تزال تعاني، شروط الحياة في ظلِّ الاستعمار الاستيطانيِّ الصُّهيونيِّ.[1]
أمَّا الجزء الثاني، فهو المتعلِّق بتجربة التَّدريس على مستوى الدَّرجة الجامعيَّة الأولى، وبالتَّحديد تدريس مساق «فلسطين: الهويَّة والقضيَّة»، وما يردفه من مساقات تخصصيَّة تُسهم في تدشين سرديَّة فلسطينيَّة جامعة، وهو موضوع هذه الدِّراسة على وجه الحصر.
وأمَّا الجزء الثَّالث، فهو توصيف آليَّات جذريَّة للعمل البيداغوجيِّ بخاصَّة، والأكاديميِّ بعامَّة، أهمُّها «منهجيَّة زعزعة العامِّ The Undercommons»، في ظلِّ التحوُّلات السِّياسيَّة لدور الجامعة، وبخاصَّة للعاملين في مؤسسة أكاديميَّة كجامعة بيرزيت الذين يعيشون الضَّنك المتناتج من سياسات الإكراه للمؤسسة الأكاديميَّة نفسها، الواقعة تحت شرط استعماريٍّ استيطانيٍّ، ضمن إطار الجنوب العالمي. ولعل هذا الجزء المتبقي، هو الجزء الأكثر نقديّاً في هذا المشروع، والذي لن تشير له هذه الدراسة إلا لماماً.
في هذا السِّياق، لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ الحاضنة المؤسَّسيَّة التي يتمُّ رصد هذا المشروع عبرها، هي دائرة الفلسفة والدِّراسات الثَّقافيَّة، المندرجة، إدارياً، ضمن الأقسام الأكاديميَّة لكلية الآداب في جامعة بيرزيت منذ منتصف سبعينيَّات القرن المنصرم. وتعتبر دائرة الفلسفة والدِّراسات الثَّقافيَّة، تاريخيَّاً، الدَّائرة الأمَّ التي كانت تطرح لطلبة الجامعة (حتى نهاية عقد التِّسعينيَّات) أكثر من نصف «متطلَّبات الجامعة الإجباريَّة»، التي تسهم في صقل هويَّتهم الثَّقافية والوطنيَّة.
وعلى الرَّغم من تقليص عدد مساقات الدِّراسات الثَّقافيَّة الإجباريَّة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتقلُّص دور الدَّائرة نفسها إلى طرح «مساقات في الدِّراسات الثَّقافيَّة كجزء من متطلَّبات الجامعة، بالإضافة إلى مساقات اختياريَّة، كما تقدِّم الدَّائرة تخصُّصاً فرعيَّاً في الفلسفة»،[2] إلَّا أنَّ الدَّائرة قد اضطَّلعت بتحقيق رسالة الجامعة «كمؤسَّسة تعليم عالٍ فلسطينيَّة مستقلَّة غير ربحيَّة، يشرف عليها مجلس أمناء مستقلٍّ، تسعى إلى التَّميز في التَّعليم والتَّربية وإلى المساهمة في تقدُّم المعارف عبر الأبحاث، وإلى خدمة المجتمع. وتؤمن الجامعة إيمانا ًعميقاً بحريَّة الفكر والتَّعبير والممارسة الدِّيمقراطيَّة والتَّعدُّدية الفكريَّة والحوار المتمدِّن، وتسعى إلى تخريج قياديِّين في كافة مناحي الحياة ملتزمين بالنَّزاهة الشَّخصيَّة والتَّجرُّد والتَّفكير النَّقدي الخلَّاق والتَّعلُّم مدى الحياة والمساهمة في الحضارة الإنسانيَّة انطلاقاً من التُّراث العربيِّ-الإسلاميِّ».[3]
ولكنَّ رومانسيَّة «المثال» الوارد في الرِّسالة والرؤيا، لجامعة بيرزيت ودائرة الفلسفة والدِّراسات الثَّقافيَّة، لم ينج من الاصطدام بقبح «الواقع» الذي يشهد العديد من التحوُّلات في السِّياسات التَّعليميِّة في فلسطين ضمن تحوُّلات أكبر على المستوى العامِّ بعد تأسيس السُّلطة الفلسطينيَّة في العام ١٩٩٤. وقد كان من ضمن نتائج هذه التحوُّلات تقليص مساقات الدِّراسات الثَّقافيَّة في أواخر عقد التِّسعينيَّات، وبخاصَّة المساق المعروف، على وجه التَّعميم، بـ«القضيَّة الفلسطينيَّة»، علماً أنَّ ملابسات هذا التقليص وغيره من التحوُّلات على صعيد السياسات الداخلية للجامعة ونزوعها النيوليبرالي (نحو العالميَّة، والعلميَّة، والعَلمانيَّة) تُبحث في جزء آخر من هذه الدراسة، سينشر بالإنجليزية قريباً.
الحكاية الفلسطينيَّة-فلسطين: الهويَّة والقضيَّة
لقد تبدَّل المساق المعروف للعامَّة باسم «القضيَّة الفلسطينيَّة»، كمتطلَّب عامِّ لطلبة جامعة بيرزيت، على امتداد قرابة أربعين عاماً ثلاث مرَّات. وقد كان ذلك ضمن التغيُّرات الخاصة ببنى البرامج والسياسات الأكاديمية في الجامعة بخاصَّة، والواقع السِّياسيِّ الفلسطينيِّ بعامَّة.
فقد طُرح هذا المساق في المرحلة الأولى ابتداءً من أواخر عقد السَّبعينيَّات وحتَّى أواخر عقد التِّسعينيَّات، تحت مسمَّى: «فلسطين في إطار الوطن العربيِّ» (CULS 322). وقد عُني المساق، في حينه، كما ينصُّ وصفه في الدَّليل العامِّ لجامعة بيرزيت، «بدراسة تحليليَّة لنصوص مختارة وموضوعات منتقاة عن فلسطين في إطار الوطن العربيِّ، ومن بين الموضوعات التي يركِّز عليها المساق، ما يأتي: تطوُّر القضيَّة الفلسطينيَّة، الثَّورة الفلسطينيَّة كحركة تحرُّر وطنيٍّ، المجتمع الفلسطينيّ، الثَّقافة الفلسطينيَّة، الحركة الصّهيونيَّة، فلسطين والوطن العربيّ من وجهة النَّظر التَّاريخيَّة، السِّياسيَّة، الاجتماعيَّة، والفكريَّة. وتشمل القراءات المقرَّرة نصوصاً ذات طابع سياسيٍّ، أدبيٍّ، فكريٍّ… إلى آخره».[4] وقد توقَّفت الجامعة عن طرح هذا المساق، كمتطلب إجباريٍّ لكافَّة الطلبة، مع نهاية عقد التِّسعينيَّات، مكتفية بمادَّتين في تاريخ الفكر العربيِّ والغربيِّ كمتطلَّبات إجباريَّة تطرحهما دائرة الفلسفة والدِّراسات الثَّقافيَّة.
وفي العام 2007، دخل هذا المساق مرحلة ثانية، تحت مسمَّى «فلسطين: الماضي والحاضر» (CULS 232)، واشترك في تصميم وصفه أعضاء لجنة من دوائر متخصِّصة بالإنسانيَّات والعلوم الاجتماعيَّة: كالفلسفة والدِّراسات الثَّقافيَّة، والعلوم السِّياسيَّة، وعلم الاجتماع، وغيرها. ولعلَّ وصف المساق الوارد في دليل الجامعة للعام 2008-2009 يعكس هذا التَّنوع، إذ يتناول المساق: «دراسة جوانب مختلفة من دلالات فلسطين، ماضياً وحاضراً، اعتماداً على المقاربة الموضوعيَّة والتَّاريخيَّة، التَّاريخ السِّياسيِّ الحديث والمعاصر لفلسطين، ت