نقاط الاحتكاك فارغة تماماً، لا تجهيزات مسبقة لجيش الاحتلال، لا استعداد لقمع تظاهرة مقبلة من بعيد، لا إطارات مشتعلة في الجانب المقابل، لا حجارة، لا زجاجات حارقة، الوضع مستتب تماما، فالأجهزة الأمنية الفلسطينية تراقب المكان وقد انتشرت في محيطه، رغم تأكدها المسبق خلو مواقع التواصل الاجتماعي من أي دعوات للتظاهر، غير تلك "الرسمية".
الثاني من تشرين أول، نختم القرن الأول على منح رئيس الوزراء البريطاني آرثر بلفور اليهود صك احتلال أرض فلسطين وخيراتها، وأعطى الضوء لبدء إبادة الفلسطينيين، طردهم من أرضهم، وتهجيرهم، وهو ما كانت تخطط له بريطانيا مذ احتلالها الأرض الفلسطينية. وها بعد 100 عام يكون الرد المبهر من السلطة الفلسطينية وقيادتها: "لتتأسف بريطانيا عن فعلتها"، ورغم أن الدول عندما تطالب إحداها الأخرى بالاعتذار عادة ما تلوح بالحرب، وتتفاخر ما لديها من أسلحة.. إلا أنني لا أعلم حقا بماذا لوحت السلطة هذه المرة! هل أضحك أم أبكي؟!
فإلى مراكز المدن جُر الفلسطينيون كالعادة، حُملوا اليافطات المطبوعة- المجهزة مسبقا- ثم مُنحوا حيزاً مكانياً للتظاهر، حيز مُنح رمزية اللاشيء، بغية اللاشيء، للوصول إلى اللاشيء أيضا.
منذ أيام تهيأ السلطة الفلسطينية مؤسساتها للانطلاق في فعاليات "غاضبة" في الذكرى المئوية لوعد بلفور، أيام عدة وقد فرضت على طلبة المدارس تعلم ماذا يعني وعد بلفور وماذا ترتب عليه وإلى أين أوصلنا.. ثم طالبتهم بخط رسائل دبلوماسية لبريطانيا تبدأ بـ "عزيزي"، وتوسلات كثيرة تطالبها بالاعتذار.
وما أن أقبلت الذكرى، أعلنت المؤسسات لموظفيها الخروج لمدة ساعة للمشاركة في التظاهرات "الغاضبة"، والعودة لاستكمال العمل مباشرة، أما طلبة المدارس فمهمتهم انتهت بإرسال الرسائل! نعم فهكذا سنغضب فقط، أو الأصح القول: هكذا تريدنا السلطة أن نغضب.
نعم، فيكفي أن "نكشر عن أنيابنا قليلا" لنخيف بريطانيا وندفعها لقول "آسف على ما حصل"، أما الاحتلال وهو نتيجة تنازلها "عما لا تملك"، فلا يوجد أي داعي للانفجار بوجهه، حسبما تعتقد السلطة، وكيف لا، وهي من تسعى لتحقيق السلام معه، وتوفير الأمن له.. كلمات متناقضة جدا: سلام، أمن، واحتلال، ولكن هذا ما ينتج عن اتفاقية الاستسلام – أوسلو- الهادفة لتحقيق ما سبق ذكره لكيان الاحتلال.
ولا يعني ما ذكر سابقا، أننا كشعب يرفض الاحتلال يعلق آماله على السلطة لتقود ثورة جديدة بوجه المحتل، فمنذ بدء تحضيرات إحياء مئوية بلفور، لم نتوقع منها أن تفجر انتفاضة، فمن جاء نتيجة اتفاق مع الاحتلال، سيبقى جزءاً منه، كما أن اتفاقية أوسلو لا تختلف كثيرا عن "وعد بلفور"، فكليهما جاء لتحقيق أهداف الاحتلال، وضمان أمن كيانه.
إلا أن المفاجأة كانت بتماهي النشطاء –المعارضين- مع حملات السلطة، بالاكتفاء بحملات الكترونية تعريفية بوعد بلفور لا أكثر من ذلك، لا أعتقد أنه اختلف كثيرا عن ما تم تلقينه للطلبة في المدارس، فيما لم يعلنوا عن يوم غضب بوجه الاحتلال من خلال التوجه لنقاط الاحتكاك واشعال المواجهات، تعبيراً حقيقا عن الرفض الفلسطيني الحازم والجازم.
ساعة التظاهر التي منحت للموظفين، لم تكن تعني الحرص الشديد على مشاركتهم الفعلية في التظاهرات، وإن يقول البعض هو حرص على العودة للعمل، فخلف ذلك حرص أعمق مما نتصور، هو الحرص ألا يشارك هؤلاء الموظفين بتظاهرات أكثر غضبا مما حددته السلطة.
وهو أيضا ما ينطبق على طلبة المدارس في البلدات التي تشهد تصاعد بالمواجهات مع الاحتلال، وقد اكتفى أمر المشاركة على المدارس الواقعة داخل مراكز بعض المدن، وتكون الحجة دائما "نخاف على أطفالنا"، فقد نسوا كيف فجر طلبة المدارس الانتفاضة الأولى، وكيف كانوا يجرون أهاليهم وقرى بأكملهم خلفهم، ليشعلوا المواجهات بوجه الاحتلال، ولا يمكنني الحسم أنه في الانتفاضة الأولى فقط، فالكثير من القصص التي تؤرخ ثورات القرى بوجه الاحتلال، كان يقودها طلبة المدارس، ذكورا وإناثا.
أما طلبة الجامعات الذين لطالما نعلق عليهم آمالنا بتفجير الانتفاضة، فاقتصرت دعواتهم على لبس "السواد"، والاعتصام داخل جامعاتهم، ليندرج ذلك ضمن التراجعات المستمرة للتحركات الطلابية.
حيز المكان الذي بات يقتصر على مراكز المدن التي لا رمزية لها إلا ما فُرض عليها بعد قدوم السلطة، الرمزية الخالية من الشيء، وحيز الزمان المرتبط فقط في المناسبات التاريخية والوطنية، وفرض الأجندات، وتحديد مسار التظاهرات، وتعيين "مدير التظاهرة"، و"مسؤول الهتافات"، وتوزيع الأجهزة الأمنية للمياه على الحضور، وغيرها الكثير، فرضت لمحاصرة الغضب في دوائر مغلقة تبقيه بعيدا عن الاحتلال، لتحرص على عدم توتره ثم انفجاره.
فما لمسناه اليوم، وما أصبحنا نلمسه عند إحياء ذكرى أي مناسبة بعد قدوم السلطة الفلسطينية، وما سنراه يتكرر في المناسبات القادمة، يندرج تحت "قولبة الغضب الفلسطيني" إذ صح أن أطلق عليه، فالغضب الذي يعني الثورة والتمرد والانتفاض، بات من مهام السلطة قولبته بحرص، "فالاستقرار" على اللاشيء من الأرض والسيادة هو الأهم، وبناء اقتصاد الوهم الذي يكبل الفلسطينيين بالديون ويبعدهم عن همهم الوطني الجامع، هو الأساس.
ولكن! هل نجحت السلطة ومؤسساتها وأذرعها فعلا بقولبة "الغضب الفلسطيني"؟