القلعة والمخيم وجها لوجه: ما بين منحى التفكيك ومنحى التضخيم وطن واستعمار
يزهو الصهاينة بماسادا في ظل نزوحهم المتواصل لتثبيت الزائف من الراوية. فيكاد يكون طقس الحج إلى ماسادا لكل جندي أهم طقس في مسيرته التدريبية. هناك يتعرف على روح اليهودي الذي لا يستسلم، هناك يقتنع بأنه خلق لخدمة هذه الدولة العنصرية ويروق له أن يرى نفسه بطلا. كم تخدم الأسطورة الزائفة الخيال؟
لكنك عندما ترى صورة الجنود وهم يفرون من صحراء النقب بعد إعلان الهدنة مع المقاومة، تكاد ترى كيف زيف الوعي صورة الجيش الذي لا يهزم ولا يقهر، إنه يعرف جيدا معنى التقهقر كما يعرف جيدا معنى الهزيمة. ذلك العملاق، ماسادا بالنسبة إليه أسطورة خيالية مهما أحبها أو تصالح معها ستبقى أسطورة. الحرية الفعلية تبدأ بأن تكون حراً وتحرر روحك قلبك وعقلك من مناهج المعرفة التي حولت كل ما هو خارج نطاق آلياتها غير قابل للتشكيك التفكيك والتعديل بل إلى النفي المطلق والإعدام.
سيحاول خبراء العسكرة والمال والأعمال في الدولة الصهيونية لسنوات محو الصورة تلك من أذهان الجنود (فكرة الفرار ،فكرة الخوف وجها لوجه أمام زيف الأسطورة). لكن سيكون مكلفاً كثيرا عليهم لأن كي الوعي سيعيد ترتيب الذاكرة على نحو سيظل الانسان الصهيوني يذكر أنه قد فر. فكيف لجماعة يهودية أن تمارس انتحاراً جماعياً ولا تهرب وأن تتحصن في القلعة؟ كيف لها ان تصبح رمزا للبطولة؟ سيفكر وسيشك. ممكن أن لا يصل إلى إجابة ويمكن أن يقنع نفسه أنها قد حصلت، لكن هناك شرخ تكون بين القناعة المطلقة بالأسطورة والواقع الذي حتم عليه أن يفر ويظهر بمظهر المهزوم المنصاع ليخوض حربا برية. سيتذكر شاليط في كل خطوة يخطوها وستتضاءل داخله القلعة أكثر فأكثر.
الوجهة الأخرى من الحكاية أسطورة حقيقية لا تمحى من الذاكرة في حيز يحاول الكل فيه أن يخلق قطيعة بين المقاومة والأخلاق، حيز ينحاز الكل فيه الى تفكيك المقاومة في أضيق نطاق ممكن. لا نحتاج الى عدد مراجع ألف أو مئة ألف لنبحث في صحة القصة أو كذبها، في وهميتها وحقيقتها. كل ما نحتاجه هو أن نزور مخيم جنين ونلتقي بالناس ونتحدث معهم. سنرى كيف كان المخيم أسطورة حقيقية هناك سترى المقاومة كيف تكون؟ وماذا يعني أن تتصالح مع الموت؟
رصاصة حرة من بندقية حرة أجدى ألف مرة من كلمة حرة حبيسة كتاب التنظير المعرفي. يصلب المخيم بحكايته ويصبح مكاناً لرجم إبليس (أي المقاومين منه) لماذا؟ الإجابة واضحة لا تحتاج إلى تفسير سيتحول المخيم إلى مكان يرعى الشغب ويتمركز فيه الزعران، البلطجية والمخربين بسلاحهم غير الشرعي غير المرخص، إنها الفوضى التي ستعم المكان هكذا ستصور المنظومة ما يحدث في المخيم، بكل بساطة سينساق البعض يكبرون ويهللون لكن الواقع غير ذلك! فالأزعر هذا أول من حمل عبء البندقية وأول من التجأ إلى الجبل، فكر أن يستعيد كرامته ويثأر من استعمار عنصري فاشي، تصالح مع الموت وكان حرا . فأصبح متهماً لدى جهتين الأولى دولة الاحتلال والثانية أجهزة السلطة الامنية.
واقع غريب عندما ترى ابن المقاومة يجلد ويصلب ويسحب سلاحه بتهمة الشغب. كل ما في الأمر أنه يريد أن يقاوم، ستستمتع بالعديد من التحليلات الرائعة والتبريرات العابرة للقارات التي ستخرج من الاكاديميا الفلسطينية لتبرر قبح الوصف الرسمي وتفكك أكثر فأكثر المقاومة. فيصبح المقاوم ملعوناً مهما فعل، يصبح المقاوم الجسد الذي علينا تشريحه لإظهار سبب حالة الوفاة. من الصعب جدا أن تنحى الاكاديميا بمعرفتها القادمة من هناك، من أماكن التفريخ والتدجين الاستعمارية منحى مقاوماً، بل ستطل تنتقد تنظر وتحاول أن تنافس المقاومة على الصدارة والمكانة.
من الطريف هنا ذكر أن الكل ينظرون إلى المقاومين نظرة انطباعها اللون، اللسان، الإسم، الشكل، لون البشرة، وما الى ذلك. فإن كنت من مؤيدي الثورة السورية على سبيل المثال وليس الحصر، عليك دائما استخدام كلمة (أبو نص لسان أو حسن نصر اللات) للإشارة إلى حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله كحليف لبشار الأسد. قليلون من يجيدون القدرة على إبراز مواطن الخلل الحقيقية في الخطابات. يصبح الفعل المقاوم مدعاة للسخرية والتفكيك .فهل زار من يصف حسن نصر الله (بأبو نص لسان) مزارع شبعا أو الضاحية الجنوبية؟ وهل تعرف من يصف المقاومة في مخيم جنين بالزعران على هؤلاء الزعران؟ أم أنه في مكتبه الفاره ومن نافذته الصغيرة ينظر الى الطبيعة ويكتب ما يكتب ليشعر بالنشوة ويرضي المنظومة، فيبقى المنظر صاحب الكلمة الصحيحة والايدولوجيا الاصح.
هل يكون الأكاديمي الصهيوني أحرص على دولته من حرص الفلسطينيين على فلسطين؟ أن تكون لديك أسطورة كتبت بدماء الشهداء في ألفية رقمية ثالثة، من الخيانة أن تعزف على وتر الزعرنة حتى تبرز مدى فهمك ومعرفتك وقدراتك التحليلية. إن كان كل من في الحيز ينبض ايدولوجيا فقلما تجد من يحملك على تحرير وعيك فاحرص على أن تلعن هذه المعرفة دائما.