رام الله – خاص قدس الإخبارية: في الطريق الزراعي الضيق وسط الجبل، السياج علا جانبيه وأطبق على عمار، لا فرصة للفرار من هنا، الصعود صعب، والنزول يعني المواجهة المباشرة بما تبقى من ذخيرة.
لكن، لماذا لم يختر المطارد الطريق المعاكس؟ كيف له وبعد أن انسحب بسلام من عمليتي إطلاق نار أن يختار هذا الطريق حيث العدو بانتظاره ولا خيار أمامه للانسحاب للمرة الثالثة؟.
الاشتباك الأخير
15 تموز المنصرم، تعرض جيش الاحتلال من قبل سيارة فلسطينية لسلسلة عمليات إطلاق نار فدائية استهدفت قواته المتمركزة في نقطة عسكرية مقامة على أراضي قرية أم الصفا، وإطلاق آخر تعرض له حاجز قريب على قرية كفر عين، ليستنفر الاحتلال بحثاً عن المنفذ، قبل وصول معلومات تؤكد أن عمار، هو من يقف وراء تنفيذ تلك العمليات الفدائية.
البحث عن عمار بدأ، من جهة جيش الاحتلال، ومن جهة أخرى الأجهزة الأمنية الفلسطينية، قبل أن تتمكن من الاتصال فيه، والإلحاح عليه بضرورة تسليم نفسه تحت ادعاء "توفير الحماية".
الساعة الثانية من فجر 16 تموز، في مساحة لا يتعدى طولها سبعة أمتار، وعرضها لا يتجاوز المترين ونصف، وبينما تقترب سيارة من نوع "كادي" تحمل لوح تسجيل فلسطينية وعلى جانبيها شعار الشرطة الفلسطينية، يواصل عمار المشي بهدوء، فيبدو أنه تم إقناعه بتسليم نفسه للأجهزة الأمنية، التي في طريقها إليه.
أحمد الطيرواي والد الشهيد عمار يروي لـ قدس الإخبارية، "طائرات الاحتلال كانت تحوم في المنطقة، وجيشه انتشر في كل مكان.. وصلنا أنه اتصالات سرية جرت بين الأمن الوقائي والاحتلال، إلا أن الأخير رفض التنسيق بعد الحصول على معلومات عن عمار".
من جهة أخرى، جرت اتصالات بين الأجهزة الأمنية وعمار تم خلالها تحديد مكان وزمان اللقاء بينهما، إلا أن عمار أغلق هاتفه وانقطع الاتصال معه، "ربما عمار استشعر الخطر، وأيقن أنه بات محاصراً من قبل الاحتلال"، يعلق والده، مشيرا إلى أنه وصل العائلة معلومات تفيد أنه نجلها كان في طريق تسليم نفسه للأمن الوقائي.
تتقدم المركبة صوب عمار بعدما تجاوزت ابن عمه لطفي الطيراوي - الذي كان قد التقى به قبل وقت قصير – لتتوقف على بعد أمتار قليلة، وتطلق أولى الصليات النارية باتجاه عمار.
إلى الاتجاه المعاكس ركض، سحب سلاحه المعبأ بالذخيرة، لتدور معركة عمار الأخيرة وجها لوجه مع عناصر في الوحدة الخاصة في جيش الاحتلال - الذي يطارده منذ 30 ساعة - حمل الصدى صوت الاشتباك موقظاً أهالي قرية كفر عين، قبل أن ينسحب الاحتلال معلناً إتمام مهمة اغتيال عمار الطيراوي.
ينقل الطيراوي عن ابن شقيقه الذي كان حينها برفقة ابنه عمار، أنه فور هجوم القوات الخاصة عليه قال لهم إنه يعمل في جهاز الأمن الوقائي - ظناً منه أنها قوة فلسطينية - فتم ضربه وتقييده بعد أن تدافعوا، بينما المعركة مستمرة بينها وبين عمار، قبل أن تنتهي باستشهاده برصاصة أطلقت عليه من مسافة الصفر.ويبين الطيراوي خلال حديثه لـ "قدس الإخبارية" أن نجله عمار اغتيل بـ 12 رصاصة، الأولى كانت على بعد سبعة أمتار والأخيرة كانت من مسافة الصفر، ذلك ما أكده التقرير الطبي، مضيفا، "ثلاثة رصاصات كانت في رأس عمار، والرصاصات الأخرى كانت في صدره.. الواضح أن الاحتلال اتخذ قراراً باغتيال عمار، وقد أرسل قواته الخاصة لتصفيته لا لاعتقاله".
الأجهزة الأمنية والملاحقة المستمرة
بين سجون الاحتلال وسجون السلطة مضت حياة عمار، حيث لم يجمعه بوالدته سوى زيارات خاطفة، تعلق والدة عمار لـ قدس الإخبارية، "لم ير عمار بحياته الخير من السلطة الفلسطينية، فلم يبقى جهاز أمني إلا واستدعاه وحققه معه واحتجزه أيام وأشهر، فعندما كان عمار يسلم من الاحتلال، كانت الأجهزة الأمنية تبدأ بملاحقته.. ولكنه لم يستسلم يوماً لأي منهم".
وتؤكد والدة عمار أن نجلها استشهد وهو ما يزال مطلوباً للأجهزة الأمنية، "مل عمار منهم ومن ملاحقتهم المستمرة فما عاد يستجيب لاستدعاءاتهم.. فقد رأى عندهم عذاباً، الله وحده يعلم به، وخاصة عندما اعتقل في سجن أريحا مدة شهرين، حيث ذاق الأمرين"، مشيرة إلى أن عمار خلال اعتقاله لدى الأجهزة كان وزنه ينخفض بشكل ملفت وكان وضعه الصحي يتراجع.
من جانبه، يقول أحمد الطيراوي والد الشهيد عمار، إن نجله وأشقاؤه كانوا "مُتابَعين" بشكل مستمر من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية بتهم متعددة تتمحور في معظمها حول التعامل مع الأسلحة وحيازتها، "لا ننكر ذلك، نعم حملنا السلاح واقتنيناه، ليس من اليوم ولكن من زمن قديم.. فكنت أنا خلال الانتفاضة الأولى، وأبنائي خلال الانتفاضة الثانية".
ويؤكد على أن عمار لحمله السلاح وحيازته تعرض لمراقبة الأجهزة الأمنية الفلسطينية كما تم مراقبته ومضايقته من قبل "أشخاص مشبوهين" حاولوا استفزازه عدة مرات بإطلاق النار على منزله ومحال تجارية للعائلة، "السلاح هو لمواجهة العدو المركزي فقط.. فليس من السهل منع إنسان يمارس عليه الظلم من أن يقاوم، والثورة والتمرد ليسا إلا نتيجة للظلم".
قبل فترة قصيرة من استشهاده، استدعت المخابرات الفلسطينية عمار واحتجزته خمس ساعات في التحقيق، وقال ولده: "عمار رفض أن يصطدم مع الأجهزة الأمنية لأنها جزء من شعبنا، وفضل مواجهة عدوه وسعى للشهادة دون تردد"، لافتاً إلى أن الأجهزة الأمنية أكدت للعائلة أنها مراقبة وملاحقة من قبل عملاء الاحتلال، إلا أنها لم توفر الحماية لهم.
الإصابة والاعتقال
الأجهزة الأمنية وخلال السنوات الماضية اقتحمت منزل الطيراوي عدة مرات، وصادرت منه قطع أسلحة تعود للشهيد عمار، "عمار كان مشروع شهادة من بداية مشواره النضالي قبل قدوم السلطة الفلسطينية، ولم يفكر يوما بالثمن الذي سيدفعه مقابل استمراره بمقاومة الاحتلال".
بداية الانتفاضة الثانية، التحق عمار بالأمن الوطني، وخلال اجتياح قوات الاحتلال لمدن الضفة المحتلة، خاض عمار اشتباكات مسلحة عدة وتصدى لهم بسلاحه، وأضاف والده، "خضع عمار لدورة عسكرية وعمل في الأمن الوطني بمدينة سلفيت مدة ستة شهور قبل اعتقاله، والتحق به مجددا بعد الإفراج عنه من سجون الاحتلال، قبل أن يتم إقالته بعد عام من العمل، بحجة اتخاذه وزميل له قراراً على مسؤوليتهما الشخصية، بالتصدي لأحد الأشخاص المشبوهين ومصادرة سلاح كان يحمله".
والدة عمار تعود بذاكرتها مستعيدة تفاصيل ملاحقة نجلها الذي انخرط بالانتفاضة الثانية أسوة بأشقائه، ليصاب في الخامس من كانون ثاني 2001، برصاصة كادت تودي بحياته، وذلك خلال مشاركته في تظاهرة انتهت بمواجهات عنيفة مع الاحتلال، "دخلت الرصاصة من أنفه واستقرت في منطقة حساسة خلف أذنه.. تم تحويله من مشفى رام الله إلى رفيديا ثم إلى المقاصد حيث أجرى العملية"، تقول الوالدة لـ قدس الإخبارية.
بعد ستة أشهر من إصابته وتحديدا في 18 حزيران 2001، تلقت العائلة خبر احتجاز نجلها عمار قرب حاجز مستوطنة حلميش القريبة، حيث جرى اعتقاله، ليصدر بحقه حكما بالسجن الفعلي سبعة سنوات ونصف بتهمة خوض اشتباكات مسلحة مع قوات الاحتلال، "في إحدى جلسات محاكمة عمار طلب من القاضي أن يضع حكم شقيقه ثائر عليه وأن يتم الإفراج عن ثائر.. إلا أن محكمة الاحتلال رفضت ذلك وأصدرت أحكاماً بالسجن بحق الاثنين".
البحث عن عمار
بين أشجار الزيتون ركضت والدة عمار وأبناؤها بحثاً عنه، لتعود وقد جمعت شظايا الرصاص المتبقية، بينما سارع الشبان لتغطية دمائه، تقول والدته، "توقعت أن يعتقلوه واستبعدت تصفيته.. لم أستطع الجلوس في المنزل والانتظار فخرجت أبحث عنه، رأيت نقاط دمه منثورة في المكان".
رفضت والدة عمار تصديق خبر استشهاد نجلها، وكيف لقلبها أن يتحمل فقدان ابناً ثالثاً من ابنائها؟! فطفلتها ايناس (أربعة أعوام) دُهست أمام ناظريها، فيما توفي ابنها الأسير المحرر ثائر بعدما صعقته الكهرباء بعد تحرره من سجون الاحتلال بعد 11 عاماً من الاعتقال، وها هو ابنها الثالث عمار يرحل شهيداً.
يومان مضى ولم تر الأم نجلها، وشعرت أن مكروها ربما سيصيب عمار، فاتصلت به فوراً، وتقول: "اتصلت عليه وطلبت منه أن يأتي لأراه ولو 10 دقائق، أخبرني أنه بعيد ورفض أن يخبرني أين هو، هو هكذا كتوم دائماً يرفض أن يخبرني شيئا عنه.. ولكني كنت مشتاقة له كثيراً".
وتضيف، "عندما كنت أسمع خبر استشهاد شاب بعد تنفيذه عملية كنت أردد (الله يعين أمه.. الله يعين أمه) فيما كان عمار ينظر إلي وهو يضحك، وآخر مرة قال لي (قولي الله يعين الجميع)".
وتتابع، "بعد استشهاد عمار حزنت كثيرا وضاقت علي الدنيا.. إلا أنني وفي يوم استقبال جثمانه، منحني الله جبلاً من الصبر، جفت دمعتي واستعدت قوتي، فزينته بالورد وزغردت له، كما شاركت في حمل نعشه".