أكثر ما بتّ أؤمن به اليوم، أن بعضاً من الإسلاميين الأتراك لا يقلّون تعسّفاً في قوميتهم عن الكماليين (نسبة إلى كمال أتاتورك)، بصرف النظر عن الخدمات الجليلة التي يقدمونها في سبيل الانفتاح على الشعوب المسلمة المجاورة، لا سيما العرب في دول الربيع، أو كلمات الأخوة والأمة الواحدة التي يغدقونها هنا وهناك، وتشعر بأنها نابعة من قلوبهم.. فهم حتى في نظرتهم لحقبة الإمبراطورية العثمانية يحصرونها في زاوية "الدولة التركية التي حكمت ممالك العرب والعجم لقرون"، وعبثاً ستحاول أن تعرض لهم باقي زوايا المشهد المتعلّق بكونها امتداد لشيء يُدعى "خلافة المسلمين"، والتي شاءت الأقدار أن تتنقل بين عرب وترك وعجم وخلافه من الأعراق.
آخر ما أنتجته عقلية أستاذ تركي أحترمه جداً وأزعم أنه متضامن دون مواربة مع فلسطين، ومقرب من العدالة والتنمية، أن الفلسطينيين باعوا أراضيهم متفرقة للتجار اليهود وقبضوا ثمنها قبل عام 48، بما فيها القدس! لكنّ "إسرائيل" تمادت أخيراً باحتلالها الضفة وغزة عسكرياً، واعتدت كثيراً على سكانها الفلسطينيين.. لا يخفون حزنهم بأنه ما كان سيُسمح بهذا البيع لولا أن الدولة العثمانية كانت منهارة في ذلك الزمان، ولا تملك السطوة في فلسطين.. الصادم هنا، أن عديداً من الأصدقاء أكدوا لي أن هذه الرواية التي يعتقد بها الغالبية الكبرى هنا، ورغم ذلك تلمس حباً كبيراً لفلسطين وللفلسطينيين أينما ذهبت!
بعض ممن احتملوا إلحاحي من الاصدقاء استطعت أن أكمل معهم نقاشاً حتى الرمق الأخير، لاقناعهم أن أصل المسألة لديهم مشوَّه، لكنّ ذات الرواية التي تُغلّف حيناً بالحسرة، وحيناً تكون مستفزة، كانت تبرز دائماً.. يقولون: العثمانيون ضحوا بسطوتهم وملكهم حين رفض عبدالحميد إنقاذ دولته مقابل بيع أراضٍ من فلسطين لليهود، بينما بعض العرب خانوا دولته، وبعضٌ آخر هم الفلسطينيون، باعوا ما لم يهُن على عبد الحميد بيعه! يخففون من وطأة كلامهم بأنّ الجهل أنذاك هو السبب! لا شيء آخر.
غالبية هؤلاء يحلمون بإحياء الخلافة "التركية-العثمانية" من جديد، ويرون فيها منقذاً لهم كمعتنقي ايديولوجيا إسلامية يعيشون في تركيا، وللدول الإسلامية الأخرى إن هي عادت إلى حضن تركيا من جديد، لا إلى مظلة خلافة إسلامية حقيقية.. (على افتراض أن هذا الخيار ممكن أو مطلوب في أيامنا هذه).
وبصرف النظر عن هذا الجدل.. يتكشّف لي يوماً بعد يوم بأن ليس فقط الأطفال العرب تلقوا تعليماً مشوهاً في المدارس ووسائل الاعلام حول 500 عام من عمر التاريخ الإسلامي شهد ما شهده من زهو وانتصارات إلى جانب الانتكاسات بطبيعة الحال، لكنّ الأجيال التركية التي عصفت بها رياح تغيير قوية على مدار مائة عام، غسلت أفكارها تماماً، ولم تُفلح الحركات الإسلامية على تنوع تياراتها وقوتها التي بدأت تبرز في العقدين الأخيرين، في تحرير العقول من ترسبات القومية التي يتناقض أبناء التيارات الإسلامية معها اليوم، ويخوضون أمامها صراع إثبات هوية ووجود.