هنري ميلر ناصحاً بقراءة أقلّ
محمد حجيري
"ما الذي يجعل الكتاب حيّاً؟" يسأل الروائي الأميركي هنري ميلر في كتابه "الكتاب في حياتي". الجواب في اعتقاده بسيط، وهو "أن الكتب هي أحد الأشياء التي يدلّلها البشر بعمق. وكلما كان الإنسان راقياً تشارك بشكل أسهل مقتنياته العزيزة. وكتابٌ يتمدّد بتكاسل على الرف ذخيرة ضائعة سدى، وكالمال يجب أن تكون الكتب في حالة تداول بشكل مستمر". على أن النصيحة الأكثر أهمية في كتاب ميلر، تلك التي يقولها لنا ببوح مدهش: "اقرأ أقل ما يمكن.."! ويعلن أنه قرأ خمسة آلاف كتاب خلال أربعين عاماً، ستقوده إلى تدوين سيرته الذاتيّة الموازية عن الكتب.
يدافع ميلر بشدة عن نصيحته بالإقلال من القراءة ويقّر بأنه لم يقلها عن تهوّر، ولاختبار هذه النصيحة يورد عدة أسباب لوجهة نظره: "فعندما تصادف كتاباً ترغب في قراءته، أو تعتقد أنك يجب أن تقرأه، دعه وشأنه بضعة أيام، ولكن فكّر فيه بأشد ما يمكنك من تركيز، دع العنوان وإسم المؤلف يدوران في عقلك، فكّر ماذا يمكن أن تكتب لو أتيحت لك الفرصة؟".
وبحسب ميلر، فإن الهدف من كتابه كامن في رغبته في سرد قصّة حياته: "إنه يحكي عن الكتب كتجربة حيوية، وليس كدراسة نقدية، ولا يحتوي برنامجاً لتثقيف الناس". يعثـر القارئ في الكتاب على التأثيرات الأدبية التي تركت أثرها في حياة ميلر، وهي تلك المؤلفات التي يسمّيها 'الكتب الثورية' أي مُلهَمَة ومُلهِمَة، وهي كتب نادرة، لا يلتفت إليها الجمهور الواسع، لأنها بمثابة خزّان خفي يستقي منه الكتاب ما يجعله قادراً على تقديم شهادة قابلة للقراءة.
ندرك من خلال قراءة "الكتاب في حياتي" أن ميلر يرى أن الفكر والفلسفة لا يسهمان أبدا في كتابة الرواية، بقدر ما يسهم الشارع وتجربة الحياة في إبداع ما يستأهل القراءة. فالطريق الشائكة، حسب ميلر، هي الطريق السهلة إلى التخييل السردي. ويتمنى ميلر أن يسترجع الكتب التي أحبّها في طفولته وشبابه، وأن يرى مجدّداً العلامات التي كان يضعها على بعض صفحات تلك الكتب "كم سيكون رائعاً لو أرى تلك العلامات من جديد". والمتعة القديمة التي عاشها ميلر في القراءة الأولى لأحد كتبه المفضّلة، لم تغب لاحقاً، خصوصاً حيال الكتب التاريخية والمذكرات، فهي تشكل النظرة الأولى لتاريخ العالم. يؤكد هنا على النكهة والمذاق والعبق لبعض الكتب، وأهمية الذاكرة في التقاط هذه المناخات لمقاومة النسيان.
يرى ميلر أن "النظر إلى القارئ كان ذات يوم أشبه بمراقبة رجل يشقّ طريقه بصعوبة في الأدغال"، يضيف "هدفي لم يكن قطّ العيش في الأدغال بل التخلّص منها! وإيماني الراسخ هو أنه لم يكن من الضروري أن أقيم في هذا الدغل من الكتب منذ البداية، ثم يعلّق استناداً إلى مقولة لنابليون بونابرت 'لا يذهب بعيداً من يعرف مسبقاً إلى أين يذهب".
لم يكن في مستطاع ميلر أن يتجاهل الكتب حين التقاها مبكراً في طريقه، وفي رأيه تشكِّل "الكتب جزءاً لا يتجزأ من الحياة كالأشجار، والنجوم والروث". في رواياته كلها كان ميلر محترفاً في تدوين يوميات حياته وانهماراتها في شكل متدفق وشهواني. يلاحظ الأشياء من حوله ويكتب عنها بأقصى المتع، يكسر القوالب والسياقات، منفلتاً من المنطق الزائف، يتبع سلطة حواسه حتى في القراءة واختيار الكتب والكتابة عنها.
في إحدى مقابلاته أوضح ميلر "كتبت قصة حياتي في كتبي، أكثر من أي كاتب آخر"، وينطبق هذا القول على "الكتاب في حياتي".
(*) "الكتاب في حياتي" صدر عام 1952، وترجمه إلى العربية أخيراً أسامة منزلجي (دار المدى).