يحدث على حين غرّة أن تنقلب حياة المرء من سعادةٍ الظنّ بها أبديٌ، إلى حياة يقينها شقاء ليصبح المكتوب مغايرًا لعنوانه، ويقيم على متنها الحزن والألم، هذه كانت حياة أمي.
أمي التي ظنّت أنّ تلكَ اللقمة السائغة التي تُسمى بالسعادة وصلت فاهها وتربّعت على عرشه، جاء الموت على غير موعد لينتزعها منها، وللأبد. الصبيةُ من قبلُ ثمّ المرأةُ المُدللة الجميلة، المنّعمة، حرم زوج تحسدها عليه نساء المدينة لعظيم أخلاقه وتدينه، وجميل وسامته، وأبناء عرفوا برّها حق المعرفة، فعملوا به حتى بلغوا من رضى القلب مبلغه.
كانت تعيش على كف الفرح، إلى أن طرق ذاك الرسول باب منزلنا، فتحت الباب لأستقبل أبي فهو عادةً ما يفاجئنا بهذا الوقت حاملًا معه ما لذ من الدفء وطاب، فإذا برجل طويل عريض المنكبين ملثم خالطَ بياض عينيه احمراراً يُعرف به المصاب الجلل، جعلني دون أن أستفسر عن أي شيء أهرول إلى أمي لأناديها، ووقفت على حديثهما شاهداً فمشدوهاً وتمتمت متثاقلاً: هل يُعقل! أبي أصبح شهيدا؟ وفجأةً بكل هذه البساطة، أصبح وَسمي "يتيم ".
ثمّ، انفضّ الجمعُ الغفير ورحل الكل إلا حملًا ثقيلًا على ظهر طفل بلغ من العمر أحد عشر خريفا، وبينما "يتكتك" الكثير أحماله يبقى شيء من الهمز واللمز قاصدًا الصابرة، وكأنها لا تعد مجالس للنساء إن خلت من ذلك، لتقول إحداهن: "الله يعينها عليها حمل كبير"، وترد الأخرى: "وين حتروح، أكيد حترمي أولادها وتشوف حالها لساتها حلوة وصغيرة"
رحل الكثير إلا بؤس الحياة الذي افترش فؤاد أمي الكبير إذ رحلت ابتسامتها وسعادتها مع رحيل أبي الشهيد، لطالما كنت أقول: يلين الحديد وعزم أمي لا يلين، أمي عصية على الانكسار أبدًا، بينما كان علي أن أعلم دومًا أن أمّي تستمد قوتها وعنفوانها من حنان أبي وجَلَده على الحياة.
وبعد مرور ما يقارب الستين ليلة من الوِحدة والحزن، طرقٌ جديد على باب منزلنا، فتحت الباب، فإذ به جدي وأعمامي خُيل لي أنهم تذكروا العزيزة التي كواها الفقد وقد عزموا على أن يطمئنوها بأنها تقف أمام سندٍ كبير بعد أبي، وإذ بهم لم يأتوا إلا لينهشوا صبر أمي من جديد، حين أخبرها جدي أنه يجب أن توقع على توكيل له لاستلام مخصصاتي أنا وأخوتي المالية، شهِدتُ على كفاح أمي في أن تبقى المخصصات في يدها كي لا تمرر كرامتها على أكُف الرجال، ثم تنازلت وهكذا أصبح جدي بيده وحده تلك اللقمة التي يُشرك بها من أراد ظلمًا وبطشًا.
علمني والدي أن سلم التنازلات لا ينتهي، وأمي تنازلت لجدي ظناً منها أنها تسد بابًا للشر وما علمت أنها فتحت بابًا للشرورِ أمام رجلٍ لا يخاف الله في مجتمع لا يرحم، يجدد جدي زيارته لمنزلنا هذه المرة في مصيبة أفقم! لم يبقَ الموت هو الفاجعة الكبرى، إنما مجتمع تخلّفت فيه الأفكار وتلوثت بما يُعرف بالعيب، وجاء رسول مجتمعنا القاسي مرة أخرى، وطرق جدي الباب ودخلت معه شياطين العادات والتقاليد التي يحملها معه شماعةً يعلقُ عليها رغباته وأطماعه. حين أعلن في وجه أمي بأنّ عليها الزواج من عمي الأصغر حفاظًا علينا وعليها قائلًا:" يا أم محمود أنت بعدك صغيره وإحنا خايفين عليك وعلى الأولاد وهالدنيا مليانه مغريات لهيك بدنا نحافظ عليك وبدنا نزوجك لعلي وهيك بيكون زيتنا في دقيقننا وكله عشان خاطر الأولاد، فكري وبكرا بترديلنا خبر". وخرج على غير رد.
نظرت لأمي فرأيتها ذاك الجلمود الذي ما فتئ وما حاد عن القوة حين صدمات متتالية، لا انكسار يعرف طريقها ولا انهزام، فهي التي لا تشتم إلا أنفة وعزة وكبرياء، حتى إنني أخالُها خُلقت من الصبر والجَلَد. هاتفت جدتي وأخوالي وأخبرتهم بالأمر وحين سرى لها موافقتهم المبدئية دبّ الخوف قلبها، نزلنا جميعا إلى بيت جدتي وأخوالي وبدأت أمي بالمطالبة بحق مكثها مع أبنائها دون أب لنا وأنها تستطيع تدبر أمرنا، لم تستطع أمي أن تجد نصيرًا لرأيها من أخوالي فعدنا أدراجنا إلى بيتنا، وبعد مرور ما يقرب الأسبوع عاد جدي طارقًا الباب مخبرًا أمي أنها ستتزوج عمي الأصغر رغماً عنها، وإلا فضحها باعتبار أنها تعيش في شقة لوحدها مع أبنائها الصغار، استمر جدي في تهديده مرارًا وتكرارًا مع عدم جدوى رفض عمي لفكرة زواجه في سنه.
أمي التي أصبحت مهيأة في كل لحظة للنزف، أدمى قلبها رجفة السؤال في صوت أختي الصغرى حين سألت عن والدي، وانكسرت أمي حين رأت أخي الأصغر يأخذ قميص أبي ويضعه بجواره حين ينام كل ليلة، وتراجعت صلابتها حين تراجعت أنا في درجاتي الدراسية، أمي خبأت أبي في قلبها وواجهت الأوجاع الكثيرة، وأخيراً... اهتزت أمي ورَبِتت وانهمرت عبراتها على وجنتيها واستسلمت لحكم العادات والتقاليد.