بالتأكيد أن أول من كان يتوقع أن يُستشهَد إذا ما عرف العدو مكانه هو الشهيد باسل الأعرج، فمنذ أن أُطلِقَ هو وخمسة من رفاقه من سجون الأجهزة الأمنية الفلسطينية، كان متأكداً أن ذلك تمّ بالتفاهم مع جهاز "الشاباك" الصهيوني وفقاً للتنسيق الأمني المطبّق من جانب أجهزة الأمن الفلسطينية. وذلك باعتباره "مقدساً" كما عبّر عنه أو وصفه الرئيس محمود عبّاس. ولهذا اختفى حتى لم ينم ليلة واحدة في بيت الأهل، وكان متأكداً أيضاً أن العدو يبحث عنه بجنون وإصرار حتى وصل عدد المرات التي اقتحم بها العدو بيت والديه وبيوت أقاربه عشرات المرات، وقد أبلغ الضابط والده في إحداها أن ولده سيُقتل لا محالة. ثم كان متأكداً بأن الأجهزة الأمنية الفلسطينية تبحث عنه، وهي الأخطر في العثور على مكان اختفائه وتبليغ العدو، فتلك هي عادتها في حالات مماثلة. الأمر الذي وضعها فعلاً في موضع الذي أخبر العدو عن مكان اختفائه. وهو ما عبّر عنه، بيقين، العشرات من الشباب والشابات ممن استقبلوا خبر استشهاد باسل بخشوع واعتزاز، وبكل ما يليق ببطلٍ مقاومٍ وقائدٍ شعبيٍّ فذ. ولهذا انصبّ غضبهم أول ما انصبّ على العدو الصهيوني المجرم ثم انصبّ في الثانية على الأجهزة الأمنية الفلسطينية والتنسيق الأمني. ولكن هنالك من جعل الغضب أولاً على السلطة والأجهزة الأمنية، وثانياً على العدو الصهيوني، بسبب هذا التعاون الخارج عن كل وطنية فلسطينية وعن كل معقول. كان باسل الأعرج، كما تدل واقعة اختفائه، وواقعة المعركة التي خاضها بالنيران مع مهاجميه، قد راح، يستعد لمواجهة عسكرية. وقد أراد منها أن تفعَل فعلها في الشباب والشابات، ولا سيما في القدس والضفة الغربية. فيصبّ زيتاً على نار الانتفاضة الثالثة - انتفاضة القدس التي كان من مفجريها وقادتها. ولهذا اختار طريق الاختفاء والاستشهاد في المواجهة العسكرية، على الذهاب إلى البيت والاعتقال. فالاختيار هنا تمّ من خلال حسابٍ مدروسٍ وليس تجنباً للتعذيب أو سجنٍ لبضع سنين (فقضيته كانت إلقاء القبض عليه من خلال الأجهزة الأمنية الفلسطينية هو والخمسة الذين اعتقلوا وبحوزتهم بعض الأسلحة وقبل أن ينفذوا أيّة عملية). إن الاختفاء لمن يعرف معنى العمل السريّ، وفي ظل مطاردة محمومة ومتجهة إلى القتل يحتاج إلى شجاعة فائقة واستعداد كبير للتضحية. وهو ما كان باسل الأعرج قد درسه جيداً. فما عُرِفَ عنه كان اهتمامُه بدراسة التجارب الثورية بما فيها العمل السريّ في المدن أو اللجوء إلى الجبال ومواجهة مُطاردة بالسلاح في الحالتين. وكان ذلك جزءاً من دراسته للتجارب الثورية العالمية والعربية والفلسطينية وله محاضرات وزعت بالصوت والصورة بعد استشهاده. وكانت بين أيدي عدد من العاملين معه للتوعية والتثقيف. واللافت في تلك المحاضرات أنه اهتم بالعمليات العسكرية الجزئية وبتفاصيلها وليس فقط بعمومية التجربة. ولهذا إن التأمّل جيداً في اختيار الاختفاء والاستعداد لخوض معركة عسكرية استشهادية عندما تأتي لحظة المداهمة يدل على أنهما جاءا من بعد تخطيطٍ هادف. وقد أراد أن يصنع قدوة استشهادية ستصنع بدورها استشهاديين. وسوف يؤدي أثرها في الشباب والشابات والجماهير إلى تصعيد الانتفاضة، والحث لتحويلها إلى حالة تتسّم بالاشتباك الفردي والجماعي والجماهيري مع العدو. فما سطرهُ باسل من بطولة لم يصدر عن يأس كما يشيع أعداء الانتفاضة الشبابية ولم يكن خياراً اضطرارياً ساقته ظروف قاهرة إليه. فكل الدلائل التي يمكن أن تُجَّمَع من سيرة باسل الأعرج، ولا سيما خلال الأربع سنوات الأخيرة تشير إلى عكس ذلك، ولا سيما الدلائل التي يمكن أن تُرصَد منذ ألقت السلطات الأمنية، التابعة لسلطة رام الله، القبض عليه وخمسة من الشباب المقاوم بتهمة حيازة أسلحة، مع تقريرٍ أُرسِل إلى «الشاباك» يضيف «مع النيّة للقيام بعمليات عسكرية ضدّ قوات الاحتلال»، كما كشفت عن ذلك تصريحات ليبرمان ضدّ الحراك الشبابي. هذه الدلائل حين يُصار إلى التأمل فيها جيداً، تؤكد أننا أمام قائدٍ استثنائيّ كان فاعلاً في التهيئة للانتفاضة وفي تفجيرها، وأراد من اختفائه واستشهاده في مواجهة عسكرية مع قوات اقتحمت عليه مكمنه أن يقول لكل محبيه، وما أكثرهم، ولكل من سيهزه استشهاده، وبالطريقة التي خطط لها وطبقها أن لا لغة يمكن أن يُخاطَب فيها الاحتلال غير لغة المقاومة الشبابية والانتفاضة الشعبية الشاملة، ولو، في هذه الظروف، ابتداءً بالعمل الفردي - العفوي - الاستشهادي، وقد ارتفع به باسل إلى العمل الاستشهادي من قِبَل قائدٍ أراد من استشهاده أن يكون تصعيداً للانتفاضة. إن لم يكن شرارةً تُشعل السهل كله. وتأتي أهمية ما اجترحه باسل تكمن في محاولته تصويب البوصلة في هذه الظروف الدقيقة وموازين القوى المعقدة. وقد ساد الكثير من الإرباك والضياع لدى نخب يفترض بها أن تعطي الأولوية لمقاومة الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس بلغة الاشتباك مع العدو، وفقاً للمصطلح الأثير عند باسل. أما من يُتابِع ردود الفعل التي تلت فوراً نبأ استشهاد باسل الأعرج فسوف يلحظ أن تقديره كان صائباً في ما سيفعله استشهاده بنفوس عشرات الشباب والشابات ووعيِهم وما راح يفعله على نطاق شعبي بدأ بوالديه وذويه لينتقل بسرعة الكهرباء إلى ذوي كل شهداء الانتفاضة، وإلى الآلاف وعشرات الآلاف في فلسطين وخارجها. وأن المرء لتعلو معنوياته إذ يرى كيف كان وقعُ هذا الاستشهاد عربياً وإسلامياً وعالمياً. وأخيراً وليس آخراً، فإن من يقرأ رسالة أو وصية باسل يجب أن يقرأها كاملة من بسم الله الرحمن الرحيم مروراً بتحية العروبة والوطن والتحرير وانتهاءً بآخر كلمة. فوداعاً يا باسل فأنت الحبيب والقدوة لمن عرفوك ولمن سمعوا عنك، ولمن سيقرأون عنك كيف بنيت نفسك وكيف أنكرت ذاتك من أجل هذه اللحظة من الاشتباك مع جيش العدو. وكيف رميت بنظرك بعيداً بعيداً إلى أبعد نجمٍ في السماء. وداعاً يا باسل الأعرج. وقد أصبحت باستشهادك ابن فلسطين كلها وستبقى فاعلاً وحاضراً في الانتفاضة فمثلك ومثل استشهادك لا يغيب عن الفعل الثوري والوعي السديد في هذا الجيل الشبابي والآتين من بعده.