ومن هنا.. هنا التي لا تشرق شمسها مثل أي مكان آخر، بينما لا يستيقظ القاطنون في هذه المساحات على أريج الورود، وإن كان لعبير حنجرةِ فيروز الحظ الكبير من جولاتهم الصباحية، وعلى اختلاف ألوان عقولهم يتفق الجميع هنا على أن جمال النهار يبدأ بتناول الفول والفلافل وقد غُمسا بزيت الأرض وزعترها وكمشة الزيتون التي لا تخلو سفرة فلسطينية منها.
تمر الأيام وتُطوى السنون كطي السجل للكتب، وتبقى نهارات المخيم كما هي وإن تغير القليل الذي لا يذكر، حيث أن جذوته محمومة بالتجذر من عبق أرواحنا، التي مُنينا بها ذات خيانة ليكون له الجذوة الأولى لمسير التحرير، ويكون لأرواحنا سبقُ الرحيل.
هنا كل المنازل تصطف متلاحمة في صلاة الحُلم، أنّها ستنفضُ من مجلسها حين إعلان نصر فعودة، في هذا المكان لن تجد خزائن قارونية للأسرار، فالبساطة والطيبة هي ملامح القلوب الوادعة التي لا تعرف خبيئة مكنونة؛ والمصارحات والمكاشفات سمة ثقافة الحياة المجتمعية هنا، فلا يكاد المكان يحتفظ بالأسرار حتى يلفظها.
ذات صباح استيقظت على صراخ جاري محمد في نقاش حاد مع جارنا أمجد على خلافٍ في خبر سياسي اقتحمَ علينا جمال الصباح ولأنهما مختلفين تنظيميًا فمن المستحيل أن يتفقا، خرجت لهما وعلامات النوم في وجهي ففي المخيم لن ترى بروتوكولات الصباح المُتحذلقة، أطلقت في وجههم كل أضغاث أحلامي المبتورة بفعلهما حتى ينصتا لصوت المخيم الممزوج بموج البحر فبه يتفق كل مختلف وكل غائب يعود.
آه تذكرت... اليوم سيعود الغائب ابن خالي حسان من بلاد الغربة ليستقر أخيرًا بين جنبات الوطن بعد أن غُيب قهرًا لثلاثين سنة وهي المرة الأولى التي سيري فيها المخيم وقد أخذت على نفسي عهدًا أن أترك أثرا طيبا في علاقته الأولى مع المخيم فالأثر الأول غالبا ما يدوم.
نفضت ما بقي من النعاس عن وجهي وطلبت من المختلفين أن يحضرا سيارة لنتجه لمعبر ايرز/بيت حانون لاستقبال العائد الجديد وأن يحسنا في الاستقبال وأن يتجنبا أحاديثهما الخِلافية.
على ناصية البوابة نستقبل حسان ، أقف بجواره مشيرًا لصديقيّ أنهما وجه المخيم الأول مطالبا إياه ألا يحكم على المخيم منهما أحدثه بذلك مازحا، نصف ساعة وكنا قد وصلنا مشارف المخيم فطلبت من صديقيّ التوجه للمنزل بالحقائب ونكمل أنا وحسان باقي الطريق مشيًا على الأقدام.
على بوابات المخيم، حظيت الجدارية الكبيرة التي تضم مجموعة من الشهداء الذين قضوا نحبهم على فترات مسير التحرير، بأول نظرةٍ تأخذ حسان منّي، فأخذت أعرفه بهم واحدا تلو الآخر محدثا إياه أن هذه الجدارية ستراها على مداخل جميع المخيمات تقريبا في قطاع غزة وذلك عرفانا لهم وتذكيرًا للصغار قبل الكبار أن العيش هنا يقتاتُ على تضحيات السابقين الشامخين، نظرت إليه لأعرف انطباعه وكأنه تاه بين الكلمات والصور وطلب مني إكمال المسير، نتجه لعمق المخيم خطوات إذ يشد انتباهه مجموعة من الصبية الصغار حفاة يلعبون في أرض مليئة بالماء والطين، لم يقطع عليهم شحنات السعادة إلا نظرات الغريب الذي لم يروه من قبل فقاطعت صمته الثقيل بابتسامة مشرقة متحدثًا: السعادة لا تحتاج الكثير ولا يحدها مكان، ولا أدوات، وجمال السعادة ألا تكون مصطنعة.
كلما تقدمنا زاد زحام المخيم؛ فالمخيم يستمر مع الوقت ابتلاعًا للاجئين جدد أفرزتهم لهفةً لأجيال تكفرُ باللجوء وتنشد الوطن السليب، فينتشرون في زقاق المخيم وشوارعه ومع هذا الانتشار تزداد الحياة صخبًا، فأخبره قبل أن يباغتني بالسؤال ليكن في معلومك يا حسان: تعد المخيمات من أكثر المناطق ازدحامًا على وجه الأرض ويختلط في ذلك الإيجابيات بالسلبيات ولكل منا نظرته في أن تُغلب أحدهما على الأخرى فأنا أرى في ازدحام المخيم دفء وانصهار أرواح كأنها جسد واحد، خلال حديثنا يقاطعنا الكثير من أبناء المخيم رجالا ونساء شبابا وأطفالا إما للسلام أو المزاح وأحيانا للمشاكسة ولا يُخفى فضول النساء لمعرفة الوافد الجديد الذي يصاحبني وتحفنا خلال هذا الأمر الكثير من الدعوات والابتسامات.
يداعبنا نسيم البحر لجثوم المخيم على تخومه فيكسر حدة الحر ويلطف الأجواء وكأن في ذلك ترحيبًا عميقًا لعودة أحد الفروع للأصل، في أفق المخيم يشد انتباه حسان هرج ومرج كثير، يعتلي تعبيراته خوف لا يُخفى خشية أن يكون في الأمر عراك، أذيب عنه جليد الشك لأخبره بل مشاركة اجتماعية من أهل المخيم لجار لنا رزق بمولوده الأول بعد 14 سنة من الزواج ليرد مستهجنا بين منزلكم ومنزله مسافة مد البصر كيف يكون جارك! لأرد بحزم: كل ساكني المخيم جيراني.
عند وصولنا للبيت ترنحت، وأخبرته هنا ننزل إذ هنا مهبطُ الحياة، هنا بكينا وضحكنا، هنا استسلمنا للحروب وهنا انتصرنا، هذا البيت شاهد عتيق على ملاحم لملمة الحياة واستئصال شرورها، حيث لا تجدُ غير بساطة الحياة، بيتٌ يحده الحب وبجواره الكرم وفي جوفه أواطر رحمة لو وزعت على أرجاء المخيم لكفته.
ندخل البيت تستقبلنا أمي بحضن ابن الغالي ويكثر بينهما القُبل والسلام، لأشده من يده مبعدًا إياه عنها مداعبا " ووين حصتي يمّا ولا من شاف حبابه نسي صحابه " يعم الضحك أجواء المكان حتى يتنبه حسان لكثرة النسوة في الدار، أطلب من أمي أن تجهز لنا ركوة من القهوة وندخل في غرفتي وأخبره أن هؤلاء قريبات العائلة منهن القريب والبعيد اجتمعن اليوم للاحتفاء بك سيتجاذبنَ أطراف الحديث ولك أن تتخيل أنهن سيتحدثن في كل شيء من الطبيخ والنفيخ حتى السياسة ولا أستبعد أن تحاول إحداهن أن تخطبك لابنتها ليرد ضاحكا هذا لن يحدث مطلقا.
يسرح حسان كثيرًا في الجدران المهترئة وكأنها تعلقُ على صدر عمرها تميمة الصمود، وفي سقف الغرفة المصنوع من الأسبست يتنهد قائلا : لو يدفعوا لي مال الدنيا ما بعيش بمخيم ، لأقاطعه قبل أن توقعه الكلمات من قلبي " انزل ولف ع المخيم واسأل أي أحد قله قديش تأخذ وتطلع من المخيم راح يقلك لو يدفعوا لي مال الدنيا ما بطلع من المخيم إلا حين عودة.
شايف هالحيطان الي مش عجباتك مليانات قصص جدودنا وأهالينا، هالحيطان فيهن قصص الهجرة والثورة ،هالحيطان بتراودنا على حلم العودة حتى نصر مقدس، نُرهبها وترهبنا أن صوت المخيم ما زال أعلى، هالحيطان في بينا وبينها علاقة تتعدى العلاقات الإنسانية ، هاي الحيطان مليانه دفا وحب وغيرة احنا لو تركنا المخيم بنموت"!!
بتعرف شو يعني مخيم؟! هو ذاك المهترئ الملعون في عين الطبقية ، وذو الصباحات الشفافة الوادعة في عيون البسطاء والطاعنين في الرضا، هو جذوة التحرير وقِبلة هزائم عربية ولّت، هو البساطة الحقّة والفطرة النقية للاجئين عاث في ديارهم الغرباء.