نظّمتْ "جفرا"، التّجمّع الطّلابيّ الدّيمقراطيّ، نهاية الأسبوع الماضي، أمسيةً أدبيّةً فنّيّةً في يافا، تحت عنوان "صبابة – نصوصٌ في الحبّ"، تكريمًا للأديب الفلسطينيّ الكبير حنّا أبو حنّا، لإسهاماته الثّقافيّة والأدبيّة فلسطينيًّا وعربيًّا. شارك في الأمسية عشرات الطّلّاب العرب الدّارسين في جامعة تل أبيب، وكان من بين الحضور عضو المكتب السّياسيّ في التّجمّع الوطنيّ الدّيمقراطيّ د. محمود محارب، والأسير المحرّر مخلص برغال، وعائلة الأديب حنّا أبو حنّا.
"هو اللّيل"افْتُتِحَتِ الأمسية بقراءة الشّاعر علي مواسي لقصيدة "هو اللّيل" لحنّا أبو حنّا، وهي من ديوان "عرّاف الكرمل" (2005)، والّتي يقول فيها: "لنا / لك / لي / هذهِ اللّيلةُ الوارفة / لنا قبّةُ اللّيلِ / نبعُ السّكونِ / لنا هذهِ النّجمةُ الخائفة / هو اللّيل / مَشْرِقُ شمسِ الصّبابة / سحرًا / فسحرًا / تفتّحَ فلُّ الجنانِ / على مقلةِ العاصفة." ثمّ تلا مواسي باسم المنظّمين ومجموعة الكتّاب والشّعراء والفنّانين المشاركين بيان الحدث على الجمهور، مبيّنًا سبب اختيارهم لثيمة "الحبّ" لتتمحور حولها الأمسية، وتسميتها "صبابة"، والغاية منها، ومسوّغات تكريم حنّا أبو حنّا.
علي مواسي: لماذا الحبّ؟ لماذا صبابة؟
وقد جاء في البيان حول الحبّ: "لماذا الحبّ؟ الحبّ مشتركٌ بشريٌّ عالميّ، رافق الإنسان فردًا وجماعةً منذ فجر التّاريخ، فجعل له آلهةً، وأعيادًا، وأعداءً، وشهداء، ونسج حوله الأساطير، وأبدع عنه ومتعلّقاته وأنماطه جداريًّاتٍ، وسرديّاتٍ، وأشعارًا، وموسيقى، ولوحاتٍ، ورقصاتٍ، ودون ذلك من ضروب الفنون. والحبّ ثيمةٌ مركزيّةٌ في موروث العرب وآدابهم، وأساسٌ قيميٌّ في ثقافتهم وحضارتهم، جعلوا له أسماءً، وأنواعًا، ودرجاتٍ، وصفات.. رافقهم منذ ما قبل إسافٍ ونائلة، مرورًا بوقوف الجاهليّ على الطّلل، فتفجّع العذريّ في نجدٍ والحجاز، فغزل الحسيّ ومجونه في مجالس السّهر، فهيام المتصوّف الإلهيّ، فعشق الزّاهد المحمّديّ، فرقّة الموشّح الأندلسيّ، فالحنين للبلدان والأوطان والمدائن وحبّها، فالشّغف بالطّبيعة، فحبّ الصّديق، والعائلة، والجمال، والأنا، والآخر، وحبّ الحبّ."
العقل العربيّ اهتمّ بالحبّ أيّما اهتمام
وأضاف: "وضع الأدباء، والعلماء، والفقهاء، والفلاسفة العرب مؤلّفاتٍ كثيرةً في الحبّ، يصعب حصرها، تدلّ كمًّا وكيفًا على مدى انشغال العقليّة العربيّة واهتمامها به، لعلّ من أشهرها "الزّهرة" لابن داود، و"طوق الحمامة في الألفة والألّاف" لابن حزم، و"تزيين الأسواق في أخبار العشّاق للأنطاكيّ، و"ديوان الصّبابة" للتّلمسانيّ، و"مصارع العشّاق" لابن الحسين السّرّاج، و"روضة المحبّين ونزهة المشتاقين" لابن قيّم الجوزيّة، و"الموشّى" للوشّاء، و"رسالةٌ في العشق" لإخوان الصّفا، و"رسالة العشق" لابن سينا، و"كتاب الحبّ عند العرب" لأحمد تيمور باشا، وغيرها كثير." وحول مسمّى الحدث جاء: "أمّا الصّبابة، مسمّى حدثنا، فهي من انصباب القلب، وتعني الهوى، ورقّة الشّوق وحرارته. ولكثرة استخدام هذا اللّفظ في آداب العرب ومؤلّفاتهم، أضحى موتيفًا وعلامةً تحيل إلى كمٍّ مهولٍ من النّصوص."
سلسلة أمسياتٍ تكشف عنْ طاقاتٍ إبداعيّةٍ وتخلق تواصلًا بين الأجيال
وحول الغاية من الأمسية: "أمسيتنا هذه، والّتي تحتضنها ’جفرا‘ التّجمّع الطّلابيّ الدّيمقراطيّ، فهي الثّانية من سلسة أمسياتٍ أدبيّةٍ فنّيّةٍ يبادر إليها مهتمّون ومحبّون للمجال، تجمع بين الحديث المتناصّ مع الموروث، وتقدّم أسماءً من أجيالٍ مختلفةٍ لتتعارف وتتواصل، وتكشف عن طاقاتٍ إبداعيّةٍ كامنةٍ جديدة، وهناك أمسياتٌ قادمةٌ مستقبلًا، تتّخذ كلّ واحدةٍ منها ثيمةً مغايرةً تتمحور حولها النّصوص."
النّصّ حدثًا قائمًا بذاته
وأضاف: "يراد لهذه الأمسيات أن تؤكّد على أنّ النّصّ يمكنه أنْ يكون حدثًا قائمًا بذاته، يقدّم مقولةً ورؤيةً وموقفًا في قالبٍ جماليّ، لا على هامش حدثٍ سياسيٍّ، أو اجتماعيٍّ، أو ثقافيٍّ عامّ، كما هو متّبعٌ في المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ عادةً." وحول تكريم أبو حنّا جاء: "وقد اخترنا، واختارت ’جفرا‘، أنْ تكون أمسيةً تكريميّةً بالحبّ للأديب الفلسطينيّ الكبير حنّا أبو حنّا، لإسهاماته الثّقافيّة والأدبيّة الفلسطينيّة والعربيّة.. نقول له: نحبّك لأنّك أنت.. نحبّك."
موسيقى وعرض "حنّا أبو حنّا.. سيرٌ في صور"
وقدّم الفنّان عامر قحاوش (غناءً) وطارق خطيب (عزفًا على آلة العود)، وصلتين موسيقيّتين شملتا أغاني عربيّةً طربيّةً وتراثيّة، هي "لمّا بدّى يتثنّى"، و"آه يا حلو"، و"مالي شغل بالسّوق"، و"يا محلا الفسحة"، وقد لاقى أداؤهما استحسانًا كبيرًا من الجمهور. وشملت الأمسية عرضًا إلكترونيًّا تحت عنوان "حنّا أبو حنّا.. سيرةٌ في صور"، إهداءً له من "جفرا"، وهو من إعداد علي مواسي وديمة عبده، تضمّن صورًا من مسيرة أبو حنّا العلميّة، والأدبيّة، والسّياسيّة من شبابه وحتّى اليوم.
فكانت هناك صورٌ لدراسته في "الكلّيّة العربيّة" بالقدس خلال أربعينيّات القرن الماضي بين أساتذته وزملائه، أي قبل النكبة، واستعداداته للسّفر إلى بريطانيا، وتأسيسه لـ "جوقة الطّليعة" أواخر عام 1948، وتحديدًا بعد النّكبة بثلاثة شهور، مع الموسيقار ميشيل درملكنيان، بالإضافة إلى مشاركته في الأنشطة السّياسيّة المطالبة بحقوق الشّعب الفلسطينيّ، وتمثيله لفلسطين وشبابها في عددٍ من المؤتمرات الأدبيّة والسّياسيّة، المحلّيّة والدّوليّة. وشمل العرض صورًا له خلال سنوات إدارته "للكلّيّة الأرثوذكسيّة العربيّة" في حيفا، وأخرى لعائلته، ولمحاضراته وأمسياته الأدبيّة، ومؤلّفاته، وعددٍ من الجوائز والتّكريمات الّتي حصل عليها، ودون ذلك.
سبعة كتّابٍ وشعراء يقرؤون نصوصهموقد ألقى خلال الأمسية سبعةٌ من الكتّاب والشّعراء نصوصًا لهم تتمحور حول ثيمة الحبّ، وكانت إلقاءاتهم على دورتين؛ شملت الدّورة الأولىآلاء سلطاني من قلنسوة (مجموعة نصوصٍ شعريّة: "النّدم"، و"قصور"، و"هباءة"، و"خبز"، و"نكرة"، و"ذئب")، ورأفت آمنة جمال من مصمص (نصّان، نثريّ وشعريّ، غير معنونين)، وشيخة حليوى من يافا (نصّ نثريّ بعنوان "الحبّ كلّه حبّيته فيك)، وطارق خطيب من نحف (نصّ شعريّ عنوانه "أواخر الأشياء – ما لم يقله ابن عربي: فصل الحبّ").
أما في الدّورة الثّانية فقد ألقى كلٌّ من الشّعراء علي مواسي (مجموعة نصوصٍ شعريّة: "فوضى حروف"، و"صلاة 1"، و"صلاة 2"، و"مصاب"، و"صدمات"، و"صدفة")، ولنا عدوان من دالية الكرمل (مجموعة نصوصٍ شعريّة هي: "وقت فراغ"، و"غضب"، و"تفّاح"، و"نوستالجيا")، ومحمود أبو عريشة من الفريديس (مجموعة نصوصٍ شعريّة: "قلبك"، و"تقاسيم كلام"، و"أطول من رغبة").
علاء حليحل: حنّا أبو حنّا طلائعيّ أزليّ
بعد ذلك، قام الكاتب علاء حليل بتقديم مداخلةٍ حول إسهام حنّا أبو حنّا الأدبيّ والثّقافيّ، مبيّنًا أنّ ما بقي وتخلّد من أدب المقاومة الفلسطينيّ هو القليل النّابض والحيّ، ومن أهمّ هذا الأدب هو ما كتبه حنّا أبو حنّا، الرّائد والمعلّم في هذا المضمار، ذلك أنّ ما كتبه هو وعددٌ من شعراء المقاومة الّذين ما زلنا نتداول نصوصهم ونحترمها حتّى اليوم كانت له معايير فنيّة وجماليّة راقية، لا مجرّد شعاراتٍ سياسيّة تُجترّ وتُكرّر ضمن قوالب جاهزة كما لدى كثيرين.
وأوضح حليحل أنّ ما يميّز أبو حنّا شاعرًا هو التّجدّد الدّائم وقدرته على التقاط اللّحظة الزّمنيّة الّتي يعايشها، واصفًا إيّاه بـ "ملك القافية المتوّج"، لأنّ قصائده رشيقة، فيها طبيعيّة وانسياب، والقافية لديه كائنٌ حيّ، وهو يمارس فيها لعبةً ذكيّةً من الموسيقى والإيقاع والضّبط.
ترابيّة القصيدة
واستشهد حليحل بمقولة الشاعر الراحل محمود درويش حول أبو حنّا، إذ قال: "حنّا أبو حنّا علّمنا ترابيّة القصيدة"، مبيّنًا أنّ تعبير "ترابيّة" يفهم لديه بأنّه الحياة بكلّ مركّباتها الأرضيّة، والتّراب الأرضيّ في مقابل السّماويّ والمقدّس، فقد كتب عن البسيط اليوميّ أيضًا المتمثّل بالتّراب، والوحل، والحبّ، والعرق، والجسد، والرّغبات، وبنية الإنسان المرتبط بقضاياه.
وتطرّق حليل إلى الجانب العلميّ والتّربويّ في حياة أبو حنّا، إذ منذ ثلاثينات القرن الماضي خرج من القرية البسيطة إلى مدينة القدس ليشكّل شخصيّته، فتغرّب، ودرس، وجدّ واجتهد، وحاز الألقاب العلميّة، مؤكّدًا أنّ هذا ليس سهلًا أبدًا في ذلك الزّمان.. ثمّ درّس في مدارس عديدة، وأنشأ أجيالًا، وأسّس صرحًا تعليميًّا إلى جانب عددٍ من زملائه، من أهمّ الصّروح في الدّاخل الفلسطينيّ، خرّج نخبةٌ واسعةٌ من أبناء شعبنا، ومن قياداته، هو "الكلّيّة الأرثوذكسيّة العربيّة" في حيفا، معتبرًا أنّ ما قام به أبو حنّا تربويًّا لا يقلّ أهميّةً، وربّما يزيد، عمّا فعله النّشاشيبيّ والسّكاكينيّ في فلسطين قبل النّكبة.
ونوّه حليحل إلى طلائعيّة أبو حنّا في مجالاتٍ عدّة، واصفًا إيّاه بـ "الطّلائعيّ الأزليّ"، ممثّلًا لذلك بتأسيسه لـ "جوقة الطّليعة" أواخر عام 1948، بعد شهورٍ قليلة من النّكبة، أي مباشرةً بعد تهجير شعبٍ كاملٍ وهدم مدنه وقراه وحضارته، يكتب لها الأغاني الوطنيّة، ويرعاها، وينتقل بها من مكانٍ إلى مكان، لعلّها أولّ ردّة فعلٍ ثقافيّة على النّكبة في فلسطين، وهو فعلٌ يدلّ على مدى الإصرار والتّشبّث بالحياة، وفق حليحل.
واختتم حليحل مداخلته بقراءة نماذج شعريّة من ديوان "عرّاف الكرمل" لحنّا أبو حنّا ممثّلًا بها على تطوّر القصيدة لديه وحداثتها ومواكبتها للعصر.
تكريم: بالحبِّ الخالدِ أبدًا نشكرُك
ثمّ قام الطّالب عبد قعدان ممثّلًا عن "جفرا" بدعوة عضو المكتب السّياسيّ في التّجمّع، د. محمود محارب، والأسير المحرّر مخلص برغاللتكريم الأديب حنّا أبو حنّا وتسليمه درع التّكريم، قارئًا ما كتب عليه: "فخرًا واعتزازًا نكرّمُ علمًا منْ أعلامِ شعبِنا، الأديبَ الكبيرَ، حنّا أبو حنّا، لإسهاماتِهِ الثّقافيّةِ والأدبيّةِ فلسطينيًّا وعربيًّا.. دمتَ لنا، للضّادِ، للأوطانِ شمسًا تروي ضياءً فنعلو وتعلو.. وبالحبِّ الخالدِ أبدًا نشكرُك."
حنّا أبو حنّا: شكرتُ جميلَ صنعكمُ بدمعي
وفي الختام، كانت لحنّا أبو حنّا كلمةٌ افتتحها ببيت شعرٍ عبّر فيه عن مدى تأثّره من التّكريم والحدث، قال: "شكرتُ جميلَ صنعكمُ بدمعي / ودمعُ العينِ مقياسُ الشّعورِ". وأضاف: "هذا اللّقاء وهذا التّكريم تكريمٌ لقيم شعبنا، فالشّعب الّذي يكرّم من يعمل في سبيله هو شعبٌ حيّ، والشّعب الحيّ هو الّذي يكرّم من يشاء في حياته وليس بعد موته، فبعد الموت يمكن أن يُكْتَبَ التّاريخ." وبيّن أبو حنّا أنّ نكبة فلسطين وتمزّقها أمام عينيه أمرٌ أثّر فيه إلى حدٍّ كبير، خاصّةً أنّه عرفها من أقصاها لأقصاها لتنقّله بين قراها وحواضرها وتعدّد أماكن إقامته فيها، وهذا ما دفعه إلى أن يكرّس جلّ طاقته من أجل الحفاظ بالثّقافة والوعي عليها في أفئدة أجيالٍ بقيت بعد النّكبة.
"مَهْرُ البومة"وتحدّث أبو حنّا عن حياة الفلسطينيين خلال الحكم العسكريّ، حيث كان النّاس يمنعون من التّنقّل قرابة عقدين إلّا بتصريح، "بل والتّصريح يحدّد لنا الطّريق الّتي نسلكها، وكان الهدف من ذلك افتراس القرى، إذ يمنع اللّاجئون من العودة إليها"، قال أبو حنّا. ونوّه أبو حنّا إلى أنّه وثّق للخراب الّذي لحق بفلسطين في الأربعينات والخمسينات في كتابه "مَهْرُ البومة"، وهو أحد أجزاء ثلاثيّة سيرته الذّاتيّة، مستوحيًا هذا الاسم من التّراث الفلسطينيّ وكون البومة علامةً تحيل إلى الخراب.
فرحت اللّيلة إذ رأيت أنّ ما قمنا به في السّابق أثمر
وأكّد أبو حنّا على أنّ "النّكبة لحقت بالثّقافة، فلم يبق من الكتّاب أو الشّعراء في فلسطين إلّا من هم بعدد أصابع اليد الواحدة أو أقلّ، ولذلك كان همّنا أن نبني ثقافةً وأن نبلور وعيًا، فأنشأنا مجلّاتٍ وصحفًا عدّة، واهتممت بشكل خاصّ بدعم الطّاقات الكتابيّة الشّابّة الجديدة، مثل راشد حسين، وسميح القاسم، ومحمود درويش"، متطرّقًا إلى النّقاشات الأدبيّة الّتي كانت تدور بينهم. وختم أبو حنّا بقوله: "فرحت اللّيلة لأنّني رأيت أنّ ما قمنا به في السّابق من مهرجاناتٍ شعريّةٍ أثمر، وأنّها تستمرّ وتتكرّر"، وتابع: "كنّا نذهب إلى القرى في ظلّ الحكم العسكريّ لتنظيم المهرجانات، ولا بدّ من أن تذهب للسّجن أو تدفع الغرامات جزاءً بعد ذلك، وكنّا بها نصل إلى القرية حيث نسبة الأمّية عالية لوضع شعلةٍ من الأمل في القلوب." وأوصى أبو حنّا المنظّمين، والكتّاب والشّعراء والشّباب بالاستمرار في تنظيم مثل هذه الأحداث، لأنّ الآداب والفنون أهمّ ما يدلّ على هويّة المرء والشّعوب والحضارات. يذكر أنّ المصمّم نايف شقّور عمل على تصميم المواد الإعلاميّة الخاصّة بالحدث، وقام كلّ من المصوّرين عيسى بريّة وأحمد نجّار بتوثيقه فوتوغرافيًّا.