في هذه المدينة الواسعة إلا على أحلامنا، يصبح الرحيل حلمًا وجب القتال من أجله، وهنا على صفحة هذه الأرض لم يبقَ لي متسع، فلقد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت، وفرَّ مني الحلم، بعد أن كان على بعد خطوة، وجفاني المستقبل بعد أن كان على بعد فكرة، أمّا حاضري فإنني أصرعه حينًا ويصرعني أحيانًا كثيرًة.
لقد بلغت الشكوى مبلغها، وأدرك الأنين منتهاه، وكلما رأيتني أتصفح وجوه الناس في الطرقات، لست أرى إلا الوجع يشكل ملامحهم، ويفعل فيها أشد ما يفعله الزمن، وهم لا يزالون يعجنون ابتسامتهم ما أتوا لذلك صبرًا.
نحدث أنفسنا بضرورة البقاء لكن النفس لا تكبح جماحًا أمام نكهة الحرية الخالصة، ننام على تحملّ كل جلل، ونساقُ إليها وهي تخالف كلّ ما ننادي به بأحلام اليقظة.
ذات يوم التقيت برجل في منطقة زراعية تقع بين دير البلح والمغازي، وعرفت من صديق لي بأنه يساعد من يرغب بالهروب من جحيم غزة. افترشنا الأرض، والتحفنا السماء، ورشفنا من القهوة ركوتين قبل أن يبدأ الحديث، الذي عاجلته أثنائه قائلًا:
"يا أبو محمود طلعني من غزة وخذ اللي بدك ياه مني، وبأي طريقة المهم بديش أظل بهالبلد"، وبررت له موقفي بأنّي شاب طموح وكم أريد أن أحقق كلّ ما تصبو له النفس خارج حدود غزة، ثمّ ختمتُ حديثي: "أنت بتعرف غزة ما خلت للحب والأحلام مكان، وأحمد بلغني أنك على دراية ممتازة بطرق الخروج".
بعد صمت ثقيل أجابني الرجل: "لك ما أردت، ما تحتاجه هو خمسة ألاف دولار، وقليل من الملابس، وسنرتب لك الأمر، لكن اعلم أن الخروج أو قل الهروب لن يكون بطريقة سليمة قانونية، فنحن سنأخذ قاربَ صيدٍ نتجه فيه للأراضي المصرية، عن طريق البحر، نصل للإسكندرية، ومنها إلى ليبيا ثم إيطاليا، بحرًا"، وبطريقةٍ سريّة... قاطعته قائلًا: مهلًا فالمبلغ كبير، ليرد عليَّ متهكمًا: "هذا ثمن الحرية! إن لم تجده فلتبقَ مكانك، ولتبكِ كما النساء".
ثمّ إن التهريب والتنقل بسرية، يحتاجُ إلى أن ندفع للجهات المعنية، يكثر الحديث بيننا عن ضمان التنقل، وكيفية الوصول، ومن سيستقبلنا في إيطاليا... ليخبرني مقاطعًا، وبلسان حاد:" شو رأيك نجوزك كمان ونأكلك؟!" ولكي يخفف وطأة الحديث، وملاحقة الأسئلة له، أتبع بأن دوره ينتهي عند إيصالنا لتلك البلاد، ثم يدبِّر كل منا أمره بعد ذلك.
طلبتُ منه أن يمهلني شهرين فقط؛ أستعد جيدًا وأوفر المال اللازم لذلك، ليخبرني أنَّ أمامي فقط عشرة أيام إن أردت اللحاق بركب من سيخرج معنا، وقبل مغادرته أعاد على مسمعي أن ما سأدفعه ثمن الحرية، والحرية لا تقدر بثمن.
غادرني الرجل وأبقاني وحيدًا أصارع الأفكار. كيف لي أن أجهّز هذا المبلغ الضخم في أيام معدودات؟ حتى بدأ وسواس القهر يسابقني في طرح الأفكار المجنونة، فهو بالطبعِ أمهر مني في هذا، ولقد استقر فكري أخيرًا على سرقة مصاغ والدتي، قبل الهروب بيوم، ومن ثمّ أختفي عن الأنظار، حتى أسافر ثم أراسلهم من إيطاليا حين أصل سالمًا غانمًا، وبكل تأكيد سيأتيها خبر سلامتي بفرح كبير! وستسامحني على فعلتي هذه، فقلبها أكبر من جرمي.
اعتلت ابتسامة خبيثةٌ على وجهي، تزين الأمر تمامًا في عينيَ، واكتمل نصابه في عقلي، وأسررت في نفسي، أن أحسن من تعاملي مع أهلي في هذه الأيام حتى لا يساورهم شك، أو تفضح تعابير القلق ما تخبئه النفس، وصلت البيت، تناولت العشاء، وأحيينا ما بقي في الليل من سمرٍ مع الأهل، وهي المرة الأولى التي أفعلها منذ أشهر.
في الصباح تواصلت مع صديقي أحمد، وأخبرته ما كان مني وصديقه، وتمنى لي رحلة قليلة المخاطر، تنتهي بي حيث أتنفس الحرية، حسبما أردنا، مرت تسعة أيام كان فيها الود مني طاغيًا مع أهلي لدرجة لا تصدق، حتى أن أمي شكرت الله كثيرًا أن أعاد لي رشدي، وأني سأبقى في كنفها كما أرادت دائمًا، حتى يرث الله إحدى روحينا، خططت لأخرج الجميع من البيت في زيارة أحد الأقارب، وقد فعلت، تحججت بأمرٍ هام وعدت للبيت مسرعًا، نفذتُ المخطّط واستحوذت على كامل المصاغ، وأحسنت بيعه كما خططت، حملت معي حقيبة قليلة المتاع، وهاتفت أهلي أني سأنام خارج المنزل الليلة، واتجهت لصديقي؛ للمبيت حتى فجر الغد وهو موعد الانطلاق.
اتجهنا تمام الثالثة صباحًا لأقرب نقطةٍ حدوديةٍ بين غزة ومصر، من الجهة البحرية سلمت المهرب أبو محمود كامل المبلغ، وأوصيته بي خيرًا، وكأن مثله يُوصى، ركبت وأربعة آخرون قارب صيدٍ لنجتاز النقطة الحدودية، في أعمق نقطة بحرية مسموحة، عملية سريعة لا تكاد تشعر بدوار بحرها قدر ما تشعر بسريان القلق لها، تمت هذه العملية بشكل سليم، وخيل لي أن كامل الرحلة ستكون على هذه الشاكلة.
وصلنا الإسكندرية تجمعنا في مخزن كبير يضم قرابة مئتي شخص من مختلف الجنسيات، وطُلب منا المكوث هنا دون حراك للتأمين. لم يكن لدينا أيةَ مؤونةٍ للأكل أو الشرب، باستثناء من تفقد نفسه قبل المجيء، لا أعرف كيف خيل لي أني بذلك المبلغ أسافر بدرجة أولى ونسيتُ أن جلّ ما نقوم به غير قانوني!
تنبهت فجأة للحديث الذي يدور حولي "سلاح، ملاحقة، غرق، سباحة" دَبَّ الخوف في أوصالي، وتذكرت فجأة ما قمت به في حق أهلي، وهل تراهم اكتشفوا فعلتي، أخذت بالبكاء بصمت حتى لا يفتضح أمري.
مضت ساعات اليوم وطلب منا التحرك للوصول إلى البحر تمام الثانية صباحًا، نقلنا لمركبٍ كبيرٍ في عرض البحر، على دفعات، بعد ساعة وُزِع علينا ستراتٌ بحريّة وكيس به سبعُ حباتٍ من التمر، وقنينة ماء، وجب أن تكفينا ثلاثة أيام، كنّا على متن القارب نُعامل معاملة قاسية، وتكال علينا الشتائم، والإهانات، ولا داعي للحديث عن ضيق المكان. وعن تقطع النوم على فترات، وكيف يتم التبادل بين كل ثلاث أشخاص، عن كمية البرد التي نخرت أجسادنا، عن الإعياء الذي أصابَ معظمنا، عن كمية الخوف التي تجتاحنا كلما شرعنا بالتنقل، من مركب لأخر، وكيف تجتمع عليك كل كوابيس اليقظة. وكنا كلما هممنا بالشغب، وُجهت إلينا أسلحة رشاشه تخويفًا.
بينما كنتُ أفكر بأن ثلاثة أيام للوصول الى إيطاليا مدة طويلة زمنيًا، قطع حبل أفكاري صراخ صاحب المركب المصري؛ لنتجهز سريعًا لتبديل المركب، هنا أثناء التبديل، سقط أحدنا! ولم يكن يرتدي سترة النجاة صرخنا وصرخ هو طلبًا للنجدة ومنعًا للصراخ وخوفًا من افتضاح الأمر، انتهت حالة الهرج والمرج، برصاصة اخترقت رأس صاحبنا، فأردته قتيلًا، وقتلتنا خوفًا.
انكمشت على نفسي خوفًا، نظرت في زادي المتناقص، لا أعرف أين وصلنا تحديدًا، لكن تحول الليل فجأة إلى نهار إثر إطلاق نارٍ كثيفٍ، لم أستطع أن أحدد مصدره، شعرت بذلك كيف اصطدم مركبنا بمركب آخر، من عرقلة جنود السواحل لنا، تمتمات بلهجات عده خالطها العربي والأجنبي، وقع منا من وقع في الماء، حاول أصحاب المركب الهرب، لكن قوارب الجنود تكالبت، بدت الرؤية تخفت في عيني وفي وعيي حتى غرقتُ تمامًا في الظلام، لم أستيقظ منه إلا في أحد السجون، لا أعرف عربيةً هي أم أجنبية، يمرُّ علينا الكثير من العساكر، ويتحدثون لهجاتٍ ولكناتٍ شتى.
مضى عليّ هنا عامان، ولم يعرف عني أهلي شيئًا، أكتب الرسائل لهم في قلبي علها تشفع لي عند روح أمي!