حين أتأمّل خارطتها منحوتةً في إحدى صفحات الكتب.. أدقّق بانحناءاتها..أميل بميل تماوجاتها.. أدغدغها بأطراف أناملي.. تارةً ألامس بحرها.. وتارةً أخرى أتحسّس يابستها.. أبتسم لأنّني جزءٌ منها.. ولي نصيبٌ في قدسها..
أواصل تأمّلي وتغترّ عيناي فقد خطفتْ شيئاً من بريقها.. قلّدتْ زرقة بحرها ولربّما اخضّرتْ كطبيعتها.. اهتزّ الكتاب وانتفض بين أكفّي.. أيعقل أنّها استشعرت مراقبتي؟ أو أنّ حنيني همس في أذنها؟! ولربّما علمتْ بسرّ انتمائي إليها..
مرّت دقائقٌ وما زلت أتساءل حول تلك الجاذبية التي حرّكتْ أمومتها..ابتسمتُ معلنةً جولتي في رحلة استكشافٍ بدأتْ عند جبالها.. وقفتُ على حوافي سفحها.. وإذ بعرض رقصةِ ترحيبٍ.. يقدّمها حمام القدس.. يعلو ويرفرف هبوطاً ليصفّق له الأقصى..ما المناسبة يا ترى؟!
تحملني فرحتي لأنحدر إلى سواحلها.. لعلّي أدرك حقيقة احتفالاتها.. ها أنا في أسواقها.. أطرب بصوت البائعين وأبتسم لعنقود العنب.. فتستغلّ حبّاته طيبتي وتتقلّب بغنجٍ لتجذبني.. أضحك مليّاً وأكمل سيري وإذ بي عند شاطئ البحر.. هناك أحتار هل أشرب من ماءه؟!
هل أغسل ببركته وجهي لتزداد إشراقاً ملامحي.. أم أستلقي فوق رمالٍ تدغدغ قدمي؟ تتّحد أمنياتي وتهاجمني رغباتي فأعاندها وأغادر ساحتها دون وعيٍ لأجد نفسي وسط البحر.. أجمع رغوته وأستفزّه قائلةً "أغرقني..أغرقني".. يدهشني حنانه حين تعلو بي أمواجه.. تلاعبني.. تضحكني.. وبرقّةٍ عند الشاطئ تقذفني.. شيءٌ ما يتصاعد خلف المبنى.. أهرع إلى هناك.. إنّه دخانٍ يغطّي سطح المنزل..وأصواتٍ ترتفع "تفضّلي..تفضّلي"..يذهلني ما أرى..أناسٌ بعيونهم كل الحبّ.. فراشاتٌ تتلاعب بحدود. ثوبي.. وموائدٌ جمعتْ كلّ أصناف بلدي.. أصبحتْ يمناي لا تعرف طريقاً ليساري.. فكلّ يدٍ تحتلًّ طبقاً.. وليت الطعام يوقف حماس ضحكاتي.. فرغتُ من طعامي ليناديني طيرٌ يتأرجح..تجاهلتُه لكنّه عرف كيف يقنع إعراضي..ربطتُ حبالاً امتدّتْ بين شجرة الزيتون ودوالي العنب.. وبضحكاتي فهِم مطلبي وبدأ يأرجحني.. وأنا أصرخ قائلةً "لا تتوقّف.. لا تتوقّف.. إنّي أرى المدن تلتفّ حولي.. صفدٌ.. ونابلس والقدس.. هيّا أرجحني.. باللّه عليك أرجحني".. وبين أصداء ضحكتي دوّى سرب طلقاتٍ ناريّة ليستوقفني.. هدأتُ..
عمّ الصمت المكان..وخال إليّ شهيداً عبرتْ روحه بجانب أرجوحتي ..سقطتْ دمعتي.. وارتجف قلبي ..وسرعان ما عدتُ من حيث أتيتُ.. شكرتُ اللّه أنّها ما كانت إلّا خيالاً أحزنني بعدما أسعدني.. عدتُ مجدداً لأتأمّل وطني في الكتبِ.. أبحث عن شيءٍ يهدّأ من روعي ..عادتْ نظراتي لتحتضن تفاصيل بلدي.. بدأتُ أجوب بتمتماتي وأحسب مساحتها..
أتنقّل بين عواصمٍ شاركتها صفحتها.. أراقب التصاقها بها.. بدأتُ أشعر بضيقٍ يعاتبني.. وعلامات استفهامٍ تحاصرني.. كيف يحملني إخلاصي إلى أن أناظر غيرها!؟ وهل تشدّني معالماً ليست بمفاتن قدسها!! وككلّ مرةٍ تغلبني أسئلتي..فأقرّ بذنبي.. وأجد نفسي تلك التّائبة النادمة إثر انشغالي عنها.. فأعود ثانيةً لأدقّق بها.. ببحرها وبرّها..وأبحث مليّاً لعلّي أعثر على مداخل أزقّتها.. أو بضعٍ من فتاتٍ 5تطاير من رماد موقدها.. يخيب ظنّي ولا أقوى حتى على خطف لمحةً من دهاليزها..
أشعر بفشلٍ يحطّم عزيمتي..فأتذمّر متعبةً.. أتنفّس الصعداء وأعود بقوةٍ أكبر ممّا كنت عليها.. وأطلق بثقةٍ صفّارة البحث حتى عن حبيبات رملها.. وإذ بنظراتي تغافلني مجدداً لتقع على حدودها.. فينبض قلبي حباً لكلّ بلدٍ تحدّها..أو لربما يخفق غيرةً منها..نعم فقد حظيتْ بما لم أحظى.. نسيتْ أمنيتي.. واستهزأتْ بغربتي.. وفكّر بأنانيةٍ حلمها.