رام الله – خاص قدس الإخبارية: توقف الكون حوله فانتصب مشرعا سلاحه، تردد بالثانية الأخيرة "أنا لا أغدر أحدا"، ناداه، التفت إليه بعدما أدار جسده نصف دورة.
بعد الساعة السابعة بدقائق معدودة صباح ١٧ تشرين أول من عام ٢٠٠١، وقف محمد الريماوي يرقب سلالم فندق "ريجنسي" الإسرائيلي في القدس، فيما صعد حمدي قرعان وباسل الأسمر خلف رحبعام زئيفي وزير السياحة الإسرائيلي.
مسك مقبض الباب أداره دورة كاملة، خطى خطوته الأولى داخل الغرفة فجاء نداء من بعد خطوة خلفه انتهى برصاصة برأسه، واقفا بقي زئيفي، ليقرر حمدي إطلاق رصاصته الثانية.
خلف حمدي كان باسل ينتظر، فإن سقط الأول أكمل الثاني المهمة. الدقيقة الثانية بدأت وما زال زئيفي واقفا بعد الرصاصتين، لينهي حمدي المهمة ويطلق الرصاصة الثالثة، ويسقط الهدف.
بهدوء وسرعة هرول باسل وحمدي، وخلفهم دوى الصراخ والعويل، استقلا سيارتهما وخلفهما محمد في سيارته، فإن لاحقتهم قوات الاحتلال فمهمة محمد الاشتباك والتصدي.
حينما عاد حمدي
عبر الإذاعات جاء الخبر سريعا وصولا لمسامع الفلسطينيين، فيما انتشرت في الصحف صور منفذي العملية الذين تركوا هوياتهم المزورة خلفهم، لتصل إلى أيهم قرعان حيث وجد صورة شقيقه حمدي بين صور منفذي العملية، "فرحة كبيرة انتابتني، ولكن ماذا بعد الفرحة، هذا فخر ولكن ما الاستحقاق .. التفتنا حولنا فلم نجد أحد، فيما الانتفاضة تشتد والاحتلال يزيد خناقه".
وبينما سعت بعض الجهات للتشكيك بالعملية ودوافعها، ونشر الإشاعات حول أن من نفذها جواسيس وخارجون عن الصف الوطني، خرجت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأعلنت مسؤوليتها عن تنفيذ العملية الفدائية ردا على عملية اغتيال أمينها العام أبو علي مصطفى.
بعد أربعة أيام رأى أيهم شقيقه حمدي قادما من نهاية الشارع إلى إحدى ورش البناء في مدينة رام الله، "وزير يخوي؟" سأل أيهم، "وشو يعني وزير ... زي كندرتي يخوي وهي دمه على قميصي" أجاب حمدي.
منهك، جائع، لم ينم منذ أيام، كان حمدي الذي لم يجد سوى شقيقه ملجئًا، "كانت العمارة قيد الإنشاء، صعد ونام في الطابق السادس، وطلب مني أن أذهب وأحضر له طعام فهو لم يأكل منذ أيام".
مستلقيا على بطنه كان حمدي، يضع وسادة فوق رأسه عسى أن تمنع ضجيج المدينة ونور شمسها من الوصول إليه، "تسللت بهدوء حتى لا أوقظه وما أن اقتربت منه قليلا، نهض فزعا وصوب سلاحه صوبي .. صرخت به حتى تيقن أني شقيقه".
استشاط حمدي غضبا ملقيا الطعام أرضا، كيف لا وكاد أن يقتل شقيقه، ليذهب ويغيب يومين لم يجد فيهما سبيلا لنجاته، فعاد لشقيقه أيهم مجددا، "لم يكن أمام حمدي سوى خيار الذهاب إلى قرية بيت ريما شمال رام الله، حيث اختفى هناك ولم أراه مجددا"، فيما حكم الاحتلال فيما بعد على أيهم بالسجن لمدة أربع أعوام بسبب نقله حمدي إلى قرية بيت ريما.
[caption id="attachment_102889" align="alignnone" width="420"] الأسير حمدي قرعان[/caption]حمدي لم يكن مطاردا إثر تنفيذه عملية اغتيال زئيفي فقط، فهو مطارد سابق إثر نجاحه والأسير اشراق الريماوي بزراعة مركبات مفخخة في مطار اللد إبان انتفاضة الأقصى، امتدادا لعمله المقاوم منذ الانتفاضة الأولى حيث اعتقل إثره عاما ونصف كما أصيب برصاص الاحتلال.
الأجهزة الأمنية تلاحق منفذي العملية
"كنت متوجهة إلى عملي ولم أسمع الأخبار بعد، كان الناس في الشوارع سعيدين جدا يوزعون الحلوى والكنافة .. ليتبين بعد قليل أن الجبهة الشعبية تبنت قتل وزير إسرائيلي انتقاما للشهيد أبو علي مصطفى" عبلة سعدات، زوجة الأمين العام للجبهة الشعبية الأسير أحمد سعدات، تروي لـ "قدس الإخبارية".
سعى الاحتلال في مطاردة أحمد سعدات سنوات عدة، ليصعد من سياسته إثر العملية، وتشمل قائمة مطاردين على خلفية اغتيال زائيفي كل من: "أحمد سعدات، عاهد أبو غلمة، حمدي قرعان، باسل الأسمر، مجدي الريماوي، ومحمد الريماوي".
ثلاث أشهرٍ والأجهزة الأمنية عاجزة عن اعتقال منفذي العملية الذين اختفوا افي مدينة نابلس، حتى داهمت وحدة خاصة من قواتها منزلا في مخيم بلاطة اتخذه الشبان ملجئًا لهم، وقامت باعتقالهم في 22 آذار من عام 2002.
وقبل أسبوعين من اعتقال منفذي العملية، وتحديدا في ١٤ كانون ثاني من عام ٢٠٠٢، أوقعت الأجهزة الأمنية الأمين العام أحمد سعدات في كمين أعدته له في حي الشرفة بمدينة البيرة.
"بدأت الأجهزة الأمنية تنفذ اعتقالات عشوائية في صفوف الجبهة الشعبية، وتبع الاعتقالات اخضاع الشبان للتعذيب القاسي والضرب، ما استدعى طلب اجتماع مع أحمد سعدات ليضع حد لما يدور وذلك باتفاق مع توفيق الطيراوي"، حسبما أفادت سعدات لـ "قدس الإخبارية".
وما أن وصل أحمد المكان حتى بدأت الأجهزة الأمنية تحاصره وتطالبه بتسليم نفسه عبر مكبرات الصوت، "رفض أحمد سعدات تسليم نفسه للأجهزة الأمنية، وأصر أن يذهب بسيارة أحد أصدقائه إلى المقاطعة حيث سلم نفسه هناك".
الاحتلال يلاحق أبو غلمة في المشافي
"بعد يوم من اعتقال الشبان، تمكنت من الدخول للمقاطعة والاطمئنان على عاهد، الذي كان في وضع يرثى له، فقد سقط من الطابق الثالث خلال ملاحقته ما تسبب له بكسور في قدميه ويده" تقول وفاء زوجة الأسير عاهد أبو غلمة، مسؤول الجناح العسكري في الجبهة الشعبية، خلال حديثها لـ "قدس الإخبارية".
[caption id="attachment_102888" align="alignnone" width="288"] الأسير عاهد أبو غلمة[/caption]وما أن بدأ الاحتلال باجتياح المدن، حتى باشر باقتحام المشافي بحثا عن عاهد أبو غلمة الذي أخضع لأكثر من عملية جراحية جراء اصابته، فيما كانت الأجهزة الأمنية تحرس غرفته في المشفى خوفا من تمكنه الفرار.
"عندما بدأ الاحتلال بمحاصرة المقاطعة، كان هناك قصف مباشر للأماكن التي كان عاهد والشبان محتجزين فيها، حيث سعى الاحتلال لاغتيالهم ... كنا نتابع على شاشات التلفاز ما يدور، كانت لحظات مرعبة ومؤلمة، فقد كنا ننتظر خبر اغتياله في أية لحظة"، تتابع وفاء حديثها.
شهران ووفاء لم تلتقي بعاهد، كما عائلات المعتقلين الآخرين، ليتفاجؤوا بإبرام السلطة الفلسطينية لاتفاق يتضمن نقلهم إلى سجن أريحا، "بعد نقلهم قمنا مباشرة بزيارتهم هناك، كان وضعهم صعب للغاية، فمنذ شهر لم يحلقوا أذقانهم كما لم يستحموا، وتحديدًا عاهد، الذي كان بحاجة لعناية خاصة".
وتعيد وفاء الفضل في نجاة زوجها عاهد أبو غلمة من الاغتيال مرات عديدة إلى الأسيرين حمدي قرعان وباسل الأسمر، "كان عاهد على كرسي متحرك، وكان باسل وحمدي لا يخرجان من المكان إلا بعد أن يصرا على حمله وعدم مفارقته".
من سجن أريحا إلى سجون الاحتلال
واصلت الأجهزة الأمنية اعتقال سعدات ومنفذي العملية في المقاطعة، تزامنًا مع اجتياحات الاحتلال للمدن ومحاصرتها، حتى بدأ حصار مقر المقاطعة في 30 آذار، تسرد سعدات ذكريات الأحداث لـ "قدس الإخبارية"، "كان منفذو العملية محتجزين داخل زنزانة مغلقة، ثم نقلوا إلى غرفة مغلقة في جناح ياسر عرفات... طلب أحمد سعدات الإفراج عنهم ولكن عرفات رفض، فطلب سعدات أن يرجعوه عندهم ليحل عليه ما سيحل عليهم".
اتفاقية رباعية الأطراف شملت "إسرائيل، السلطة الفلسطينية، أمريكا، وبريطانيا"، نصت على محاكمة منفذي العملية ومقاومين آخرين، ونقلهم إلى سجن أريحا.
"أربع سنوات ونحن نعاني في زيارة أريحا ... مؤلم أن من يعتقلك هو شقيقك تحت الحجة المعهودة وهي الحماية، رغم إصدار أحكام متفاوتة بحق عاهد وسعدات وباقي الشبان" تعلق وفاء أبو غلمة لـ "قدس الإخبارية".
بعد أربع سنوات اجتاحت قوات الاحتلال مدينة أريحا، وداهمت السجن بعد أن تعرض لقصف جوي ومدفعي، إثر انسحاب مفاجئ للحراسة الأمريكية البريطانية، والأجهزة الأمنية الفلسطينية، لتعتقل قوات الاحتلال منفذي العملية وتخضعهم لجولة تحقيق استمرت 40 يوما.
" الرئيس محمود عباس وصائب عريقات الراعي للاتفاق كانا في العاصمة الأردنية عمان، ولا يوجد أحد من السلطة موجود، فإذا كان مبرر اعتقالهم هو حمايتهم ... لماذا تهربت السلطة ولم تحميهم وتدافع عنهم؟" تتسائل أبو غلمة.
حتى اللحظة الأخيرة لم يستسلم المقاومون، فبحثوا عن أسلحة داخل مقر أريحا ليصدوا بها اقتحام قوات الاحتلال، إلا أنهم وجودها كلها فارغة بلا ذخيرة، "عناصر الأمن الوطني استسلموا وخرجوا بعد أن خلعوا ملابسهم رافعي أيديهم فوق رؤوسهم ...اعتقدنا أنهم هم من يحمي شبابنا لنتفاجئ أنهم استسلموا بعد إطلاق أول رصاصة من الاحتلال".
[caption id="attachment_102880" align="alignnone" width="416"] قوات الأمن الوطني أمام سجن أريحا[/caption]استمر اقتحام السجن حتى ما بعد منتصف الليل، والقيادي أحمد سعدات وعاهد أبو غلمة ومنفذي عملية اغتيال زئيفي يرفضون الاستسلام، حتى اقنعوا بعد تدخل عدة جهات سياسية، "خرجوا رافعي رؤوسهم، بكرامتهم دون أن يخلعوا ملابسهم ودون أن يرفعوا أيديهم .. خرجوا بكل صمود وعزة".
محكمة الاحتلال أصدرت أحكام عالية بحق منفذي العملية، فنال حمدي قرعان حكما بالسجن المؤبد و100 عام، فيما باسل الأسمر حكم عليه بالسجن المؤبد و20 عاما، أما مجدي الريماوي فحكم بالسجن المؤبد و80 عاما لأنه الرأس المدبر والمخطط، وصدر حكم بالسجن المؤبد بحق الأسير محمد الريماوي، كما حكمت الاحتلال صالح العلوي بالسجن 12 عاما بعد اتهامه بنقل الأسيرين من قرية العيزرية.
ورغم أن لوائح الاتهام حملت الشبان المسؤولية الكاملة عن العملية، إلا أن الاحتلال أصدر حكما بالسجن 30 عاما بحق الأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات، فيما حكمت على القيادي في الجبهة الشعبية عاهد أبو غلمة بالسجن المؤبد وخمس سنوات بعد اتهامه بإعطاء الأمر العسكري لتنفيذ عملية اغتيال زائيفي.
[caption id="attachment_102890" align="alignnone" width="600"] الأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات[/caption]"الحكم الصادر بحق سعدات كان سياسيا وليس قانونيا، فهو لم يعترف بأي تهمة وجهت إليه، وما استطاع الاحتلال تثبيته عليه هو تنظيمه في الجبهة الشعبية" تقول زوجته.
وما زالوا يرعبون الاحتلال
رغم مرور ١٥ عاما على اعتقال حمدي قرعان، إلا أنه ما زال يدب الخوف بقلوب الاحتلال، فلا تسمح له إدارة السجن إلا بالنوم أمام باب الزنزانة ليبقي على مرأى من السجان.
[caption id="attachment_102891" align="alignnone" width="390"] الفدائيون خلال اعتقالهم في سجون السلطة[/caption]"حمدي يشعر أنه مهدد بالاغتيال فيرفض الخضوع لأي علاج أو فحص طبي قد يكون تمهيدا لاغتياله ببطء"، يقول أيهم، مشيرا إلى أن شقيقه يعاني من بطء بتخثر الدم ووجع مستمر بالأسنان وأمراض جلدية وآلام في المعدة.
أيهم وحمدي على مدار الخمسة عشر عاما، لم يتلقيا سوى مرة واحدة، عجزا خلالها عن الكلام، "أكثر من ربع ساعة ونحن نظر إلى بعضنا وعاجزين عن الكلام، حتى قطعت الصمت بسؤاله عن حاله".
فيما لم تلتق وفاء بزوجها عاهد سوى مرتين طيلة فترة اعتقاله، المرة الأخيرة كانت بعد سبع سنوات من منعها زيارته، وما أن أكمل نجله قيس عامه الثامن عشر حتى لم يعد يزور والده إلا مرتين في العام.
"إدارة سجون الاحتلال عزلت عاهد عامين في الزنازين الانفرادية ولم تخرجه إلا بعد الإضراب عن الطعام، فيما تواصل نقله بشكل تعسفي بين السجون كل ستة أشهر"، تقول وفاء.
أما أحمد سعدات فلم يتمكن من رؤية أبنائه الأربعة إلا مرة واحدة طيلة السنوات الماضية، في ظل الرفض المستمر لإدارة السجون منحهم تصاريح الزيارة، ناهيك عن عزله لسنوات عديدة في الزنازين الانفرادية.
وتبين زوجة سعدات أن أشد عقاب نفذه الاحتلال بحق منفذي عملية، أنه لم يجمعهم حتى الآن داخل سقف زنزانة واحدة، "هم أصروا على موقفهم الحاسم الرافض للاحتلال، وما يمارس بحقهم الآن هو انتقام مستمر".
أحكام المؤبد، والسنوات الطويلة لم تطفئ الأمل بقلوب منفذي عملية اغتيال زئيفي وعائلاتهم، فما دامت المقاومة تنبض فالحرية على بعد خطوة.