كتِبَ الكثيرُ وقيل أكثر عن الاتفاق الأخير بين حركتي فتح وحماس برعاية القاهرة، والحقيقة أنه يستحق كل ذلك وأكثر سيما على سبيل البحث والتحليل والاستشراف باعتباره حدثاً مهماً وله تداعياته على مجمل المشهد الفلسطيني.
بيد، عبّرت الكثير من الكتابات عن الأمنيات والأحلام والرغبات أكثر من الوقائع والحقائق والمنطق، بمعنى أنها كتبت ما "يحب" الجمهور قراءته لا ما "يحتاج" لقراءته، مع عدم إغفال عدد لا بأس به من الكتابات والآراء الرصينة التي لم تتخل عن الموضوعية في سبيل التفاؤل وبقيت محافظة على أمانة الكلمة.
ولئن كانت الساعات والأيام الأولى بما تضمنت من تصريحات إيجابية وقاطعة من بعض المسؤولين الفلسطينيين من أسباب المبالغة في التفاؤل، فإن تأخر مخرجات الاتفاق حتى الآن ينبغي أن يكون مسوغاً كافياً لمحاولة وضع الأمور في نصابها.
إن أول ما ينبغي قوله هو أن ما حصل حتى الآن بعيد جداً عن فكرة "المصالحة" بين التنظيمين الأكبر على الساحة الفلسطينية وأقرب إلى معنى تنازل حركة حماس عن حكم قطاع غزة وتسليمه للسلطة/فتح، وما دون ذلك فهو داخل ضمن ما يسمى التحليل الرغبي غير المستند إلى الواقع.
ومما ينبغي قوله أيضاً أن تأخر تجميد/إلغاء رئيس السلطة محمود عباس لإجراءاته العقابية على قطاع غزة - وليس حماس بالمناسبة - يشي بنوايا غير طيبة بخصوص هذا المسار، ويوحي بأن الرجل قد أرغم نوعاً ما على الاتفاق ولم يكن يريده، أو أنه يستشعر - حقيقة أو انطباعاً - أن حماس تتنازل له عن السلطة عن ضعف وتأزم وبفعل عقوباته، وبالتالي فهو يريد الاستمرار بها لتحصيل المزيد من التنازلات.
وينبني على هذا شيء مهم ينبغي على كل صاحب رأي أو قلم أن يقوله، وهو أن الطرفين - حماس وفتح - ليسا متساويين في هذه العملية. فالأولى قد قدمت ما عليها وأكثر وتبدو بالغة الحرص على إتمام العملية حتى نهايتها، بل وصدر عن بعض قياداتها تعابير في هذا الصدد انتـُقِدوا عليها، بينما لا يبدو عباس وحركة فتح في عجلة من أمرهم ليس لإتمام مصالحة حقيقية ينتظرها الشعب الفلسطيني ولكن لرفع "العقوبات" عن الموظفين والمرضى وعموم سكان غزة.
ورغم أن الكثيرين يذهبون إلى أن حماس تفعل ما تفعل مضطرة، وبغض النظر عن مدى وجاهة هذا الطرح بالنظر إلى عدم اختلاف الاتفاق الأخير كثيراً عن سابقيه من حيث المضمون، إلا أن ذلك لا يقلل من قيمة ما قدمته حتى الآن وما تبدو مصرة على فعله مستقبلاً، في حين يصمُّ أبو مازن أذنيه عن معاناة الشعب الفلسطيني في القطاع، ولعله يؤكد ما ذهبنا إليه سابقاً من أن الكثير من الانسدادات في القضية الفلسطينية تبدو على جدول انتظار غيابه عن الساحة السياسية.
رفع واشنطن وتل أبيب "الفيتو على المصالحة" بين فتح وحماس كما رأى الكثيرون، ينبغي أن يدفع للتفكير ملياً في أسبابه إن كان دقيقاً. ولكنني أظن أن ما رفع هو الفيتو على تسلم السلطة في غزة لإبعاد حماس عنها وليس القبول الكامل لمسار المصالحة بين الطرفين.
أخيراً والأهم، ما هي معايير نجاح هذا المسار؟ ومتى نقول إن المصالحة الفلسطينية قد تمت فعلاً؟ أعتقد أن ثمة معياران أحدهما للبداية والآخر للنهاية.
فمعيار البدء في مسار مصالحة حقيقية هو مسارعة السيد محمود عباس إلى رفع كافة العقوبات عن قطاع غزة وإلزام وزراء حكومته باستلام الوزارات بجدية وبدء تسيير أمورها فعلياً، بل وزيارة القطاع تعبيراً عن وحدة الجغرافيا الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال في غزة والضفة.
وأما معيار إتمام المصالحة فبلورة مشروع وطني فلسطيني جامع لكل الفصائل والقوى والتيارات والشخصيات الفلسطينية، مشروع يتبنى التحرير ويعتمد على المقاومة بكل أشكالها ويلتزم بحماية الثوابت وصون الحقوق الفلسطينية ومواجهة المشروع الصهيوني.
فما أضر القضية هو انقسام المشاريع السياسية التي أعاقت التحرير، وما انتظره الشعب ويطالب به ليس المحاصصات السياسية تحت سقف أوسلو، ولا مجرد تأمين الغذاء والدواء للفلسطينيين (على أهمية ذلك)، ولا جمع الفصائل الفلسطينية المختلفة على غير مشروع التحرير.
إن مشكلة الفلسطينيين - والمنطقة - الأكبر والأبرز والأخطر هي الاحتلال، وما بقي هذه الاحتلال قائماً فلا يمكن أن تكون حياتهم طبيعية، والحديث عن الرفاهية والسعادة والعيش الكريم وفرص العمل تبقى مصطلحات نسبية في حالة الاحتلال ولا يمكن أن تكون بذاتها أهدافاً للشعب الفلسطيني ولا برنامجاً لفصائله وقواه.
إن ما يحتاجه الشعب الفلسطيني هو تحرير أرضه ودحر المشروع الصهيوني، وكل ما دون ذلك يبقى مجرد أهداف فرعية أو مرحلية ما دامت تخدم الهدف النهائي الرئيس، وحين تجتمع القوى الفلسطينية على هذا الهدف والبرنامج ساعتها - وساعتها فقط - يمكن أن نتحدث عن مصالحة حقيقية، تصلح أن تكون رافعة لمشروع التحرير، وإلا فلا كانت.
المصدر: المعهد المصري للدراسات السياسية والإستراتيجية