أبكتني نظراته، تلكَ التي التقطتها له خلال تغطيتي لأحد المؤتمرات في تركيا. ما زالت تلك النظرة عالقة بذاكرتي كمصباح وحيد في شارع مهجور، أوجعتني حد البكاء. أذكر أنني وقتها تركتُ المؤتمر وهرعتُ للخارج أبكي بحرقة، ليس شفقة عليه، بل اشمئزازا ممن كانوا حوله، أولئك الذين يهرعون لأخذ صور تذكارية معه وهم لا يدركون أنهم يأخذون صورا بجانب رماد كرامتهم.
جلستُ قبالة أحمد، الناجي الوحيد من محرقة منزل الدوابشة على يد مستوطنين إسرائيليين في قرية دوما جنوب مدينة نابلس، ومثلتُ أنني منشغلة بهاتفي المحمول، لكنني في الحقيقة كنتُ ألتقط صورا لردة فعله وأرصد نظراته ورؤيته لمحيطه دون أن أشعرهُ تجنبا لإرباكه، كان متيقظا لأي حركة تدور حوله بعكس أي طفل في عمره، هادئ حد الغضب، يرفض كل من يتقرب منه وكأنه يشعر بالقرف من كل العالم، ويكتفي بملاطفة جده له، لاحظت أن فوبيا التصوير أصابته، لدرجه أنه كان يضع يده على وجهه بمجرد أن يشعر بأن أحدهم يلتقط له صورة، وإن بطريقة غير مباشرة.
لم أقترب منه، خشيت أن أصبح مثل أولئك الذين ينافقون في ملاطفة طفل صغير، جعله الحزن والفقدان بطلًا بزمن أصبح فيه الحزن هوية الفلسطيني، وباتت فيه آلامنا لوحة معلقة على ملامح كل واحد منا، يتفحصها الغرباء بدقة ثم يمضون. خشيت أيضا أن أنهار باكية أمامه، كنت قاب قوسين أو أدنى من ذلك لحظتها. أردت أن أطلب منه المغفرة لكل الفلسطينيين.
Zoom In لوجهه، ملامحه تحدثت بالكثير، كِدتُ أسمع صرختها قائلة: لا أريد عالمكم المزيف المليء بالفلاشات والأضواء والمجاملات، والنبيذ الذي أذاب عقل جمالي النّضر وحوله لجلد محترق. سكرتكم هي التي فعلت بي ذلك، أريد الضوء الرطب الذي تلاشى بداخلي عندما اشتعل عالمي جفافا من حولي.
نعم، سكرتنا هي من أوصلت هذا الطفل إلى هنا، صمتنا عن الانتقام وتحويل ذكرياته لمناسبة، جعلا المستوطنين يتمادون في الاعتداء علينا، تماما كما حصل مع الطفل محمد أبو خضير الذي حرقوه ورقصوا على جثته.
حاول المستوطنون قبل أشهر حرق منزل عائلة الدوابشة من جديد، ونجحوا في إحراق بيت الشاهد المركزي في القضية، ولكن حكومة الاحتلال الإسرائيلي ادعت أن سبب الحريق هو تماس كهربائي دون إجراء أي تحقيق في الموضوع ودون أي تدخل، وقبل أيام دعت صفحات إسرائيلية ومستوطنون متطرفون إلى قتل الطفل أحمد الدوابشة تعليقًا على خبر خروجه من المستشفى عائدًا إلى منزل جده في قرية "دوما"، حيث كتب إحدى الناشطين اليهود: "بعون الرب، أحمد سينضم قريبًا إلى باقي أفراد عائلته تحت الأرض"، في حين كتب ناشط إسرائيلي آخر ساخرًا: "خسارة أنه لم يمت، لكان بإمكانه أن يدخل الجنة وتكون عندها حفلة كبيرة".
وفي ظل الخطر المحدق بحياة أحمد، نجد الشعب الفلسطيني يحتفل بالذكرى الأولى للجريمة، بدلا من فعل شيء على أرض الواقع يحمي العائلات الفلسطينية من خطر المستوطنين.
هكذا نحن، شعب يجتمع بأعداد هائلة في الميادين احتفالا بذكرى انطلاقة فصيل ما ينتمي إليه، أو في الجنازات والذكريات السنوية لمآسيه، بينما يتلاشى في المظاهرات والاعتصامات الحاسمة. وفي المقابل، يخرج عضو اللجنة المركزية لحركة فتح محمود العالول ويترك البصمة الفتحاوية في خطابه، قائلا "عهدنا علينا ألا ننسى أو نغفر هذه الجريمة التي أودت برضيع ووالديه، وتركت لنا هذا الشاهد الوحيد -الطفل أحمد دوابشة".
صدقا هذا الكلام جميل، جميل جدا لدرجة أنه يُجبركَ على التساؤل: كيف سيكون شكل انتقام "فتح"وعدم غفرانها لهذه الجريمة، إذا لم تستطع بكل ما تملكه من سلطة على إجبار حكومة الاحتلال الإسرائيلي من محاكمة المتهم الرئيسي بجريمة حرق عائلة الدوابشة، والتي أدت إلى استشهاد شقيقه الرضيع ووالده ووالدته ليبقى أحمد الناجي الوحيد، إلا من آثار حروق جسده وروحه الصغيرة التي لن تشفيها ما قدمته السلطة للمحكمة الجنائية الدولية، ولن تبردها إدانة العالم وقلق الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ولن تُجملها تصريحات مسؤولة الشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغريني.
إن تلك الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي وقطعان مستوطنيه بحق المدنيين الفلسطينيين ما هي إلا "إرهاب دولة" وليست فقط "إرهاب مستوطنين"، وما كانوا ليرتكبوها لولا شعورهم بوجود دولة تحميهم وقضاء يُبرئهم ويعزز عنفهم بغياب عدالته التي باتت تبيح دم الفلسطيني.
مرت سنة على هذه الجريمة التي تحميها حكومة الاحتلال، وسوف تمر سنوات دون عقوبة المجرم، ولن تنتهي إلا بالرد المناسب عليها، فالعين بالعين والسنُ بالسن والبادئ أظلم، ولا أظن أن شعبا قدم أرواح أبنائه للوطن ينتظر العدل من عدوه، صدقا هذا الشعب لن تليق به الحياة إن حُرقَ أبناؤه واستمر في اجترار الذكرى السنوية.