رام الله – خاص قُدس الإخبارية: امتلأ صالون الحلاقة بالزبائن ليلة العيد، الكل حجز منذ يومين وأكثر، ثم حضروا اليوم قبل موعدهم بوقت طويل، كما بدأ الأطفال بالتهافت أيضا، مصرين أن يكون لهم دورهم حتى وإن لم يحجزوا مسبقا.
الكل حضر، والمشهد الاعتيادي لـ "ليلة كل عيد" اكتمل تماما، إلا أن الحلاق لم يحضر بعد، رغم أنه لم يتركهم ينتظروه يوما، فقد كان دوما في استقبالهم. مضى بعض الوقت قبل أن يتذكر الزبون أن حلاقه، لن يحلق له شعره كما اعتاد، لن يحضر الليلة، كما لن يحضر أبدا.
ففي الرابع كانون أول، أغلق أنس حماد (21 عاما) صالون الحلاقة مبكرا على غير العادة، ثم التقى بعدد من الزبائن على باب صالونه، ووعدهم بأنه لن يغيب كثيرا طالبا منهم انتظاره، إلا أن انتظاره طال، بل استمر دون نهاية. فأنس لم يعد أبدا.
فعلى المدخل الغربي لبلدة سلواد شرق رام الله، وخلال مواجهات عنيفة كانت تشهدها المنطقة، تقدم أنس بمركبته منفذا عملية دهس فدائية، ارتقى إثرها شهيدا، وغاب الحلاق الشاب المحبوب لأهالي بلدته.
تروي والدة أنس، أنه تعلم مهنة الحلاقة من والده الأسير بسام حامد، ليصبح يده اليمنى في العمل، ويسد مكانه كلما تم اعتقاله من قوات الاحتلال، ويتحمل بالفعل كل المسؤولية التي ألقيت على عاتقه.
[caption id="attachment_96042" align="aligncenter" width="539"] أنس يحلق لوالده[/caption]"لم يكن يترك والده، إلا أنه أحيانا كان يمل من العمل، ويتوسل إلي أن أقنع والده بإغلاق الصالون يوم الاثنين ... وما إن يقبل والده حتى يذهب للتنزه مع أصدقائه"، تقول والدته.
لم يكن الصالون مجرد صالون للحلاقة، بل ملتقى لشبان الحي وأصدقاء أنس، فجلسات أنس لا تعوض، خاصة يوم الخميس، حيث يتجمعون للحلاقة على يد صديقهم، فهو شاب خفيف الظل ولطيف، لا يزعج أحدا بكلام جارح ويحترم الجميع، كما أن له لمسة مميزة يتركها عليهم، وهو ما يؤكده أحد الشبان الذين اعتادوا على ارتياد الصالون.
وبعد استشهاد أنس بعشرة أيام، اعتقلت قوات الاحتلال والده بسام وحولته للاعتقال الإداري لأربعة شهور، ليشيع جثمان نجله بعد أكثر من شهر من احتجازه، دون أن يلقي عليه نظرة الوداع الأخيرة.
ورغم غياب الحلاقيْن، أحدهما تحت التراب والآخر خلف القضبان، إلا أن الصالون لم يغلق، إذ اتخذ حلاقو البلدة على عاتقهم فتح الصالون وتجديده وتغير آرمته التي باتت تحمل اليوم اسم "صالون الشهيد أنس".
وفي طريقك لمخيم قلنديا شمال القدس، سترى آرمة مشابهة ولكن تحمل اسم "صالون الشهيد ناهد مطير".
ففي 29/شباط الماضي، وخلال اقتحام قوات الاحتلال لمخيم قلنديا، تمت استهداف ناهد (21 عاما) برصاصة في رأسه، ليصارع الموت 15 يوما، قبل أن يرتقي شهيدا.
في السنوات الخمس من حياته قرر ناهد امتهان الحلاقة، وتعلمها من والده فوزي مطير، "كان ابن، صديق، وأخ .. كان باختصار مستقبل حياتي بالنسبة لي، كنت أريد تسليمه الصالون ويصبح هو المسؤول عنه، فعمله كمهني كان رائع وكان ذلك يجعلني مطمئن على العمل كثيرا"، يقول والده الذي وجد نفسه مكسور الذراع هذه الليلة.
أصحاب ناهد اعتادوا التجمع في الصالون قرب صديقهم دائما، فيعلق والده: "كان الكل يحبه ويلجؤون له ويسألونه عن كل شيء.. كان مرجعية لهم، لأن ناهد كان له بعد نظر من تجارب العائلة وطبيعة الحياة والظروف التي مررنا بها … فأصبح ناهد قائدا صغيرا".
دخول الصالون وناهد غائب عنه كان الموقف الأصعب على والده، فيعلق: "لم أكن أريد دخول الصالون ولا أريد رؤيته لسببين، أن هذا الصالون لناهد وليس لي، وأن كل ذكريات ناهد فيه".
قبل استشهاده خطط ناهد لتغيير تصميم الصالون وتجديده، إلا أن رصاص الاحتلال كان أسرع من تحقيق أحلامه التي تبناها أصدقاؤه وأكملوها. ويوضح والد ناهد أن أصدقاء نجله بعد استشهاده، وخلال غيابه (الأب) عن الصالون وعدم قدرته على دخوله، قاموا بتغييره كما كان يخطط ناهد بالفعل.
ويضيف، "كان صعبا علي جدا أن ادخل الصالون وناهد ليس فيه، رغم أن كل شيء فيه تغير، أجمل ما فيه كان كرسي ناهد الذي بقي مكانه وكما هو".
وغير بعيد عن صالون ناهد، وفي مخيم الشهداء قلنديا أيضا، يمتنع صالون الشهيد إيهاب الشوعاني عن استقبال زبائنه، فصاحب الصالون أسير لدى الاحتلال، والحلاق الآخر الذي اعتاد أن يساعده ويسد مكانه فارق الحياة شهيدا قبل شهور.
ففي 25/كانون ثاني، استشهد حسين أبو غوش (17 عاما) وصديقه ابراهيم علان إثر تنفيذها عملية طعن فدائية في مستوطنة "بيت حورون" المقامة غرب رام الله. تقول شقيقته ميس: "كان حسين شجاعا جدا، لا يقبل الذل ولا يقبل أن يهينه أحد... كنا نرى الحزن في عينيه، فهو يريد فعل شيء لكنه غير قادر، كان يبكي الشهداء، وخاصة صديقه الشهيد ليث الشوعاني وأحمد جحاجحة".
ولم يكمل حسين تعليمه المدرسي، بل توجه إلى التدريب المهني حيث تعلم تصليح الأجهزة الالكترونية، ثم تدرب لدى أحد أصدقائه في صالون للحلاقة، وتسلم إدارته بعد اعتقال صديقه.
"كان قلبه أبيض وكبير، لم يكن يقول لا لأحد، كنت أتدرب معه حلاقة كان يسمحلي لي بأخذ عدة من الصالون واستخدام الصالون في التدريب.. حسين كان أفضل صديق عندي"، يقول صديقه عبد الله علقم.
حسين وقبل أيام من استشهاده أعلن مسامحته لأصدقائه وجيرانه في الديون التي أعطاهم إياها، وكان يحلق لمعظم الشبان ويسامحهم بأجر الحلاقة.
ثلاثة حلاقين، لن يشاركوا اليوم زبائنهم استعداداتهم للعيد، تغيب اليوم ابتساماتهم، نكاتهم وقهقاتهم، وتبقى بطولاتهم ذكرى يقتدى بها.