اليوم هو يوم الأسرى بوصفهم قضية متعددة الأوجه، وتجربة بطولة ومعاناة فريدة وأسطورية، وتاريخاً وطنياً نضالياً مديداً، وواقعاً إنسانياً مريراً، وهموماً متشعبة يصعب حصرها، واستحقاقاً سياسياً وطنياً ثقيلاً لا يلبيه غير اقتران القول بالفعل. هنا، ولأن اليوم، بل كل يوم، هو يومهم، ولأنهم كل ما تقدم ويزيد، فإن كل كتابة أو حديث عنهم يبقى ناقصاً وإلى ممارسة رياضة اللسان أقرب وبها أشبه، إن هو لم يندرج في إطار هدف تصحيح الاعوجاج الذي يسم التعامل السياسي الوطني العام والفصائلي الخاص مع قضيتهم في الممارسة، (أساساً)، وفي الخطاب، (أحيانا). اعوجاج صار جلياً اقتراب تحوُّله، إن لم يكن قد تحوَّل فعلاً، إلى قصور بنيوي مستفحل معه وعليه بات ثمة حاجة إلى إعادة تدقيق فهم قضية الأسرى وتعميقه. وفي سياق ذلك نسوق بإيجاز:
أولاً: الأسرى -أساساً وأصلاً- هم نتيجة حتمية وضريبة لا مناص منها، ورمز شامخ لقضية شعبهم ونضاله الوطني المديد من أجل استرداد حقوقه المغتصبة في الحرية والاستقلال والسيادة والعودة، ما يجعل مسألة تحريرهم أو انتزاع معاملتهم كأسرى حرب وفقاً للقانون الدولي والإنساني أو حتى تحسين شروط عيشهم مسألة سياسية وطنية نضالية بامتياز وبكل المعاني وعلى المستويات كافة. وهذا ما لا يتحقق إلا بأن يكون التحرك الوطني لمصلحتهم إستراتيجياً لا تكتيكيا، ودائما لا موسمياً مرتبطاً بمعاركهم البطولية الجماعية والفردية، وما أكثرها وما أعظم بطولاتها وتضحياتها، وسياسياً واعياً ومخططاً ومبادراً وليس ردة فعل على محطات تصعيد التنكيل بمكنونهم الوطني والإنساني والحقوقي المعيشي. وهو التنكيل الذي يفوق كل تصور ويتجاوز كل حدود.
ثانياً: الأسرى ليسو فرعاً هامشياً أو ملحقاً يكفيه إسناد وتضامن أصله، (الحركة الوطنية الفلسطينية)، بل فرع شريك له حقوق واستحقاقات ومقتضيات مطلوب تلبيتها بالمعاني كافة. إذ لئن كان مجافاة كاملة للحقيقة حصْر ملحمة نضال الحركة الوطنية الفلسطينية في تجربة فرعها في السجون، فإن من الظلم تجاهل فرادة هذه التجربة وطليعية دورها وجوهرية مساهمتها في الكفاح الوطني بوصفها خندقاً متقدماً لثقافة المقاومة وبنيتها، وبكونها اشتباكاً يومياً دائماً ومباشراً وتفصيلياً مع أكثر أجهزة المحتلين الأمنية والإدارية تطرفاً وسادية وعنصرية. اشتباك قط لا ولن يعي تماماً، ( فما بالك أن يتحسس بالضبط)، ما في جوفه من صور المعاناة والبطولة الحسية التي لا حصر لها إلا المنخرطون فيه، ومنهم بالذات أولئك الذين خاضوا فيه -ساعة بساعة- لسنوات وعقود.ثالثاً: لئن كان من التعسف اختزال البطولة الجماعية المديدة لتجربة الأسرى الفلسطينيين في بطولات أفراد أسسوا لها أو قادوها أو سجلوا في تاريخها بطولات فردية أسطورية فريدة ونادرة، فإن من غير الانصاف عدم التنويه بالدور الطليعي لهؤلاء جميعاً في بناء هذه التجربة وتحمُّلِ مسؤولية، بل أعباء، قيادتها في محطاتها كافة، وفي محطات تراجعها، (ارتباطاً بتراجعات وطنية عامة)، تحديداً. إذ فضلاً عما في محطة تأسيس تجربة الأسر الفلسطينية من قسوة وتعقيد، مرت تجربة الحركة الوطنية الأسيرة بمحطات مجافية كان لـ"تفاؤل إرادة" أفراد استثنائيين الدور الأساس في انتشال عربتها من وهدة "تشاؤم العقل"، حين تقدموا الصفوف، وفجروا الطاقات الكامنة على طريقة من يحفر الصخر بالأظافر ويجعل -بالمعنى النسبي- غير الممكن ممكناً، والصعب سهلاً، والحلم إنجازاً، والخيال واقعاً، والقول فعلاً، والأمنية حقيقة. فهؤلاء القادة، (وما أكثر المجهولين منهم)، بمعزل عن سنهم ومرحلتهم وحزبهم وفكرهم، هم قادة الفعل الذي يصنع المنابر. وهم حراس القيم وملح الأرض الذي لا يفسد. بهم، وبأمثالهم من طلائع الكفاح الوطني، يصير الاستثناء -في كل محطات النضال الوطني- قاعدة. وتلك- لمن ينسى لفئوية ضيقة أو لجهل أحياناً- بطولات فلسطينية تتكرر منذ نشوء الحركة الوطنية الفلسطينية في عشرينيات القرن الماضي وحتى يوم الناس هذا.
ومن قبيل التدليل لا الحصر يجدر التنويه بعدد من الشواهد البارزة، بدءاً بتسابق الأجداد الأسرى محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي على حبل المشنقة، وبجدنا الجليل عز الدين القسام الذي أرادوا استسلامه وأسره فأبى وصاح في رفاقه: "أن موتوا شهداء"، مروراً بالشهيد القائد الأسير عبد القادر أبو الفحم الذي رفض إعفاءه من المشاركة في إضراب مفتوح عن الطعام رغم جراحه المميتة ورجاء زملائه حيث خاطبهم بالقول: "لا تأخذوا كل الشرف... أعطوني نصيبي منه"، تعريجاً على الشهيد القائد الأسير عمر القاسم الذي قادوه من سجنه ليطلب من رفاقه في مجموعة "عملية معالوت" الانسحاب والكف عن المطالبة بصفقة تبادل للأسرى فرفض المساومة وخاطبهم بالقول: "أيها الرفاق نفذوا ما جئتم من أجله"، وعلى الشهيد القائد الأسير إبراهيم الراعي الذي رفض التحرر من السجن ضمن مجموعة من الأسرى أفرجت عنهم سلطات الاحتلال استجابة لطلب من "روابط القرى" حيث تقدم الصفوف وخاطب وسائل الإعلام المنتظرة ثناء المفرج عنهم على روابط القرى بالقول: "من ناحيتي لا يشرفني الإفراج عني باسم روابط القرى كحركة سياسية مرتبطة بالاحتلال....". وأضاف: "منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا...أعيدوني إلى السجن..."، وصولاً إلى أصحاب بطولات الإضرابات الفردية الأسطورية عن الطعام الذين يتقدم صفوفهم هذه الأيام البطل الأسطوري بكل المعاني سامر العيساوي الذي ما انفك، وهو المعلق بخيط رفيع بين الحياة والموت، يواصل إضرابه ويرفض إنهاءه دون تحقيق مطلب الإفراج عنه وعودته إلى مسقط رأسه القدس.
على أية حال، في تجربة أسرى فلسطين ما يجعل الكتابة عنهم مكابدة. فالكتابة هنا تظهير -بالكلمات- لملحمة بطولة ومعاناة جماعية فريدة ونادرة خاض غمارها 800،000 من الرجال والنساء وأسس لها وقادها قادة قدوة ونماذج حية تدمج القول بالممارسة، وتجسر الهوة بين النظرية والتطبيق، وتعمِّد المواقف بعرقِ ودمِ وتعبِ النشاط اليومي المثابر. بل وتأخذ الكتابة عن أسرى حرية فلسطين واستقلالها وسيادتها طابع المخاطرة، ليس لإشكاليات تتعلق بهم، بل لأن الحديث عن المناضلين بصورة عامة مكررة بات تلخيصيا يُفقد التفاصيل دورها في تكوين خصوصيات الجوهر العام للنضال والمناضلين. فنحن إزاء مناضلين وقادة أسرى قَدَّوا البطولة من صوان جبال فلسطين، وظلوا أنقياء جامحين مقتحمين لم يتعبهم السفر في آفاق عتمة المعتقلات والسجون والزنازين. مناضلون وقادة ظلوا ذاهبين إلى حيث المصير لكل من وهب حياته لقضية بحجم قضية فلسطين.
نحن إزاء مناضلين وقادة أسرى ملأتهم حقول العطاء، وما انفكوا، رغم قسوة السجن ومجافاة الظروف شامخين كسارية تخفق فوقها رايات حرية الوطن والشعب. نحن إزاء فرسان شقوا غبار المعارك حتى آخر نبض وما ترجلوا تَعباً أو هزيمة. نحن إزاء مناضلين وقادة أسرى ما زالت عيونهم المتوقدة ترنو إلى العلا وآفاق انبلاج شقائق النعمان على ضفاف الجداول. نحن إزاء مناضلين وقادة أسرى لا تزال معاناتهم وبطولتهم- قبل كلماتهم- كتاباً مفتوحاً لجماهير شعبهم في الوطن والشتات. نحن إزاء مناضلين وقادة أسرى صاروا قطرات عرق تتطاول شجرا سامقا يرد الظلم. نحن إزاء مناضلين وقادة أسرى حكايتهم حكاية من يتقدم الصفوف حتى الاحتراق، حكاية مناضلين يهزمون زنازينهم. نحن بهذا كله إزاء قضية بات فهمها بحاجة إلى إعادة تأصيل وتدقيق وتعميق.