ستفوز حكومة "إسرائيل" بتركيبتها الحاليّة ببطولة العالم في رياضة القفز عن الجدران الواطئة، وهي رياضة تبرع فيها الحكومات فاقدة الصلة بالواقع (وأنا والله، لا أقول هذا بهدف التهجم على الحكومة).
أولا: قبل المباشرة، ينبغي الفصل بين الحكومة وبين الجهاز الإداري والعسكري.. الدولة العميقة إن شئتم، التي تتولى الحفاظ على سياسات "إسرائيل" الاستراتيجية. والدليل على ذلك، كل المحاولات السطحية التي تقوم بها الحكومة لخدش سطح هذه الدولة العميقة بإجراءات لاستبدال قيادات وسيطرة على إعلام، ومحاولات تغيير خطاب. إلخ.
هنالك مستويين من العمل. الأول ثابت، والآخر مجرد تنويعات على اللعب بعواطف الغوغاء. وبضمن الفئة الأخيرة تندرج الحكومة الحالية، برئاسة نتنياهو، فهي مشغولة باستعمال أكفّها لفرك نهايات أعصابها، وأعصاب جمهورها، وخلق انتصارات وهمية على أعداء وهميين.
مثالان، من ضمن أمثلة أخرى كثيرة، للتدليل على بطالة الحكومة ووزرائها:
* يوم الأحد الذي مرّ قبل عامين بالضبط. أي في اجتماع يوم الأحد لحكومة نتنياهو، في أعقاب مظاهرة "اغضب من أجل الأسرى" التي حدثت قبل يومين، أعلنت الحكومة عن نيتها معاقبة الحركة الإسلامية بسبب "مسؤولية الحركة عن المظاهرة"، التي لم تشارك فيها الحركة الإسلامية بالمطلق. والنتيجة: تصفيق حادّ من الجمهور الإسرائيلي.
* يوم أمس، قال آردن، وزير الأمن الدّاخلي، في أعقاب اجتماع الكابينِت، بأنه سيسعى لممارسة الضّغط على حماس، عبر فرض قيود مشددة على معتقليها وسحب إنجازات منهم. عن أية قيود وأية إنجازات يتحدّث؟ الله وحده قد يعلم.
هل يفترض الوزير مثلا، بأنه بهذه الطريقة يضغط، حقّاً، على حماس؟.
من سيقتنع بهذا الإعلان هو المواطن الإسرائيلي، قارئ ’يسرائيل هيوم‘ الذي يمهر في التصفيق لوزراء نتنياهو. أو في شتمهم، بحسب نشرة الأخبار في ذلك اليوم.
رغم ما سبق، يبدو بأن هواية حياكة الصوف ليست تخصص الحكومة الإسرائيلية وحدها.. بل إن لها منافسين خطيرين في فلسطين أيضا.
إعلان آردن يشير إلى التالي: الأسرى في طريقهم إلى مواجهة جديدة وشاملة، وهم مدفوعون إليها دفعا هذه المرة أيضا (أقول بأنهم مدفوعون لأنه ما من إرادة جامعة تحرّكهم، والدليل على ذلك، رفضهم المشاركة في نضالات أسرى الشعبية في السجون). المواجهة تأتي هذا العام أيضا من دون أن نتحضر لها. الأسرى أنفسهم غير حاضرين في الشارع. والشارع نفسه منهك تماما من أخبار الحركة الأسيرة ومنهك تماما بسبب مفاعيل الموجة الإنتفاضية الأخيرة.
دليل آخر على الإنهاك: قمت قبل أكثر من أسبوع بالاتصال بأحد العاملين في منظمة تعمل من أجل الأسرى، وهو صديق شخصي. هدف الاتصال كان التنسيق لنشاطات لدعم بلال كايد، منذ يوم إضرابه الأول، ووعدني هذا الصديق خيرا، ووعدني بمعاودة الاتصال بي، لكي نقوم بتنسيق النشاطات. وماذا أقول لكم: الهاتف لم يرنّ حتى الآن.
ما الذي تفعله مؤسسة حقوق معتقلين في هذه الظروف؟
تترافع أمام المحاكم العسكرية؟ تحاول تجنيد دعم شعبي وراء نضالات الأسرى؟ تحاول فضح الممارسات الإسرائيلية أمام الرأي العام العالمي؟: خذوا عندكم: لا تقوم منظمات حقوق الإنسان بأي عمل في المجالين الأولين، وأغلب ظني بأنها تفشل في المجال الثالث. فلماذا لا نقوم بإهداء موظفيها كرات صوف، تقديرا لجهودهم في السابق، لكي يمارسوا هم أيضا الحياكة؟
أنا، بصراحة، مع فكرة أن تقوم قيادة السجون (أو ما تبقى منها) بمراجعة لموضوع الإضرابات الفردية. ومع أن تقوم باختيار معاركها وتوقيت معاركها، ومع أن تجري مراجعة نقدية وجادة للمعارك الجماعية التي تخوضها منذ العام 1995، التي تبدو، في رأيي الخاص، مجرد محاولات إعلامية من دون تفكير جدي في نتائج هذا الأمر على الشارع، وعلى الحركة الأسيرة.
من أقنع الأسرى، في العام 1995، بأنهم قادرون على الضغط على عرفات ورابين بأن يطلقوا سراحهم جميعا؟ من أقنعهم، في العام 2004، بأن تساحي هنغبي، وزير الأمن الداخلي، سيقلق لشأنهم، أو بأن الشارع سينتفض وراءهم؟
القصة تنسحب على باقي النضالات التالية، التي تبدو متعثرة، وفاقدة لأي تكتيك، وغير متصلة بالواقع. وهو ما انسحب أيضا على دعم الناس لقضيتهم
راعوا أنني أتحدث هنا عن الناس في الشارع باعتبارهم جماعة بشرية، تحرّكها قوانين طبيعية، لا عن روبوتات. وهؤلاء ينبغي الإصغاء إلى نبضهم، والتعامل معهم بندّية، وإلا كانت النتائج وخيمة، كما هو الحال في كل إضراب مرّ منذ إضراب 1995.
إن إنجاز الجماعة الفلسطينية الأسيرة عبر تاريخها الطويل هو تحويل هذه المجاميع إلى جسد واحد بإرادة واحدة. وفي ظروف مواتية، مكّن هذا التوحّد من توحيد الشارع خلف الأسرى، وهو ما خلق متوالية "الانتفاضة في السجون.. السجون في الانتفاضة" التي أبدعها رفيق غزّي في سجن نفحة، ذات مرة.
جدليّة الشارع والسجن: إرتكان الأسرى الموحّدين إلى أن هنالك شارعا موحّدا خلفهم، ينتظر إشارتهم للبدء بمعركة تنهك "إسرائيل"، وتقود حكومتها العاطلة عن العمل إلى إعمال ميزان الربح والخسارة، والرضوخ مجددا، وكعادتها، في المعارك الصغيرة من أجل رفع مبلغ الكانتينا، رفع الشبك عن الزيارات، السماح بإدخال الكتب. وأجهزة التلفاز، إلخ. بدلا من كل هذا الانهيار الكبير الذي يحصل. كانت له قوانينه وظروفه. وقد مرّ بسيرورة طويلة.
وما يحدث منذ سنوات هو عملية لتفكيك هذا الجسم الاعتقالي الموحد، مترافقا مع تفكيك الشارع الفلسطيني لأسباب وظروف أخرى. وبذا، فقد أُُنجزت، لصالح "إسرائيل"، مهمة كبرى وهي تحويل كل أسير إلى قضية خاصة وحالة فردية. بإمكان كل أسير أن يخوض حربه الفردية وحده، فينجح في كسر قرار اعتقاله أو يسقط في الاختبار، من دون تحرك حقيقي في الشارع القانط.
خلاصة القول بعد الاعتذار؛ يا جماعة: هنالك حرب قادمة على الأسرى، وسنخسر فيها. هذا يقيني.
ولكن، إن ظلّت القيادة الأسيرة على حالها هذا، فإنه من الأفضل لها أن تفكك أيّ تنظيم اجتماعي وتنشغل هي الأخرى بحياكة الصوف، على غرار وزراء نتنياهو ومنظمات حقوق الإنسان.