"أنا لاجئة"، ولا أعرف ما مدى الفخّرية المناسبة لهذه الكلمة، لكنها بكلّ الأحوال تمدُّني بالقوة لأسبابٍ لا أعلمها حقيقة، وسأحاول في هذه المرّة أن أحصيها، إذا أردت أن تعرف معي لماذا على اللاجئين أن يقولوا ذلك بملء فمهم دون حرج، فأكمل قراءة هذا المقال وساعدني في الإحصاء والأسباب.
اللجوء ليس "فكرة" ولا حالة ولا ظاهرة ولا شعب تشرد فحسب، أمر مهم يستحق أن نتفق عليه أيضًا أن اللجوء ليس خيمة ولا طفل حافٍ يسير متسخًا وجهه، يلتقط له مصور أجنبي صورة وخلفه شعار "الأونروا" وخيام بيضاء، وصنبور مياه تتوارد عليه النسوة هناك، فأنا لاجئة ومسجلة رسميًا بذلك ولا أسكن المخيمات وأعيش بشكلٍ مقبول.
أن تولد تحت مسمى لاجئ، ذلك أمر آخر، فالنكبة التي قاربت السبعين عامًا تعني أن هناك 6 أجيال على الأقل تواردوا إلى الدنيا تحت هذا المسمى، من أكبرهم المسن إلى الجيل الأخير منهم الذي لم يتجاوز العشر سنوات، حتى كتابة هذا المقال صرخت لاجئة في غزة وهي تلد لاجئ جديد.
ولدتني أمي بشهادةِ ميلاد فلسطينية، الأمر يدعو للفخر وأنا أعي ذلك، ولو كان لي أن أختار لاخترت أن أكون فلسطينية أيضًا، ولاحقًا حملت الهوية الفلسطينية الخضراء، لكن ما لم أستطيع استيعابه مبكرًا هو علاقة "بطاقة اللجوء" بحياة أكثر من نصف الفلسطينيين هنا، ووعيت حتى كبرت على سؤال " أنتِ لاجئة؟ يعني إلكم كرت مؤن؟"
"شو يعني كرت مؤن؟" هو بطاقة تثبت أنك مسجل ضمن قوائم اللاجئين في سجلات وكالة الغوث، وعليه فإنك تمتلك امتيازات إضافية عن جارك "المواطن" الذي لا يملكها، تستطيع أن تأخذ كل دورة توزيع ما تستحقه من "تموين ومؤن لمواد غذائية يتناسب طرديًا مع عدد أفراد أسرتك" لكن ذلك بشروط أيضًا منها ألا تكون موظفًا حكوميًا أو بوكالة الغوث وألا تكون ربّ عمل أو تمتلك مصدر دخل ثابت يعينك على المعاش.
يخوّلك امتلاك "الكرت" أيضًا، إلى ضمان حقّك الجزئي في العلاج ضمن مستوصفات الوكالة التي لا تصرف لك إلّا "كم صنف" من الدواء، أذكر عندما كنت طفلة قلت لأمي إنني لا أريد أن أذهب إلى عيادة الوكالة لأني أعرف مسبقًا أن الطبيب سيكتب لي شريطين "اكامول"، ولا أعرف إن كنت تعرفه بالضرورة.
لكننا ولله الحمد، كنا محسودين على ذلك، لسنا مضطرين إلى دفع مبلغ شرائه من المستوصف الحكومي الذي يبعد عن بيتنا كذلك، كما أنه ليس أفضل بكثير من مستوصف الأونروا، وعليه فان أمرًا كهذا يعد امتيازًا بغض النظر عن تفاصيل المقابل، ودون أن نمعن بقضية "مقابل ماذا يا سيدي تمنحك الاونروا الحنونة هذا؟".
إن كنت لا تعرف، فعليك أن تعرف معي أنه من دواعي الفخر أيضًا أن تتخرج من مدارس وكالة الغوث، تلك التي عُرفت بقوتها التعليمية، فلقد كان مدرسوها من أفضل المدرسين في البلد على الاطلاق، الأعلى درجة علمية وخبرة، كما أنهم يجتازون امتحانات توظيف ومهارات قوية، كانوا مدرسين رائعين بحق، لقد تخرجت أجيال من بعدهم.
وكوني لاجئة فقد تخرجت من ضمن قوافل الأطفال الذي تلقوا تعليمهم الأساسي حتى الصف التاسع في مدرسة بنات غزة للاجئين، وأرتدي مريولًا مخططًا لا أعرف حتى الآن من الذي اختار هذا الزيّ ليظلم آلافًا من الفتيات، لقد كنت أرفع راسي إذا ما سألني أحدهم "بنت وكالة؟" وأهز راسي بثقلٍ خفيف لأسفل مجيبة "نعم نعم بنت وكالة" بغض النظر عن المريول.
كما علمتني مدرسة اللغة العربية حتى خلت أنه يحق التباهي بأنني تخرجت منها لغتي جيدة وأسلوب الكتابي جيد كذلك، كانوا يخصصون لنا حصة للتعبير، كانوا يدركون أننّا "ماكلين هوا" في هذا الجانب لا نستطيع أن نتنفس برأينا وتعبيرنا، على الأقل اكتبوا ما لديكم على الورق حتى وان كان التعبير غالبًا عن مواضيع معروفة عن "الوطن ويوم الشجرة والأم إذا ما اقترب وقتها"
لقد كنت أحفظ رقم بطاقة التموين تلك "23301314" هل هذا يعني أنني اللاجئة الـ23 مليون ضمن التصنيف؟ يا إلهي هل هذا عدد اللاجئين في العالم؟ غير معقول؟ هل هو عدد الأفراد المستفيدين وليس عدد العائلات فقط؟، بكل الأحوال فان الأحق أن يقال إن مدارس الوكالة علمتني كيف اقرأ هذا الرقم بشكل صحيح.
بموعد اعلان نتائج الثانوية العامة كل عام، كنّا ننتظر من يكون الأوّل على الوطن أو عل القطاع، وطالما كان أبناء المخيمات من يحجزون مقاعدهم الأولى في سلّم التفوق، تخرجوا وارتقوا مهندسين وصحفيين وروّاد، كان أبناء المخيمات دومًا في المقدمة في استلام الشهادات العلمية، والشهادات الأخروية أيضًا، فهم الأبطال والمقاومين والشهداء، يستحقون الفخر واللهِ صدق أول من قال إن المخيمات أصل الحكايات.
بعيدًا عن جو المقارنات، لكن اللاجئ يمتلك معارف كبيرة أكبر من أقرانه حتى في البلد ذاتها، كما أنه يشعر بعمق ذاته، يمتلك العديد من البطاقات والكروت وبالألوان، حتى وصلت إلى البطاقة الالكترونية لهم، وأزعم أن اللاجئين قد عاشوا حياة فوق أعمارهم، من يعرف غيرهم ماذا يعني "كرت مؤن؟" من يتابع موقع الوكالة لمعرفة موعد "الكابونة"؟، من يعرف التمييز بين أنواع الكابونات "صفراء وبيضاء" حيث تعني الصفراء أنها "مُضاعفة" التموين لحالات الفقر المدقع الذين تم تصنيفهم وفق الأونروا بأنهم من يقل دخلهم عن دولارين يوميًا.
من يعرف ما تحتويه الكابونة وموعد تسليمها ودورة توزيعها وأماكنها وآلية التصرف معها، من يبيعها ومن يشتريها ومن أين تأتي؟ من يعرف مميزات "حليب المؤن" آه على حليب المؤن ذلك الذين نادرًا ما يبقى على حاله، سرعان ما تحوّله أيادي اللاجئات الماهرات إلى مشروب أو جبنة أو لبنة أو كرات لبنة، حليب متعدد الاستخدام الآدمي، وقد تقدمه هدية لأولئك الذين لا يستلمون، أحلى هدية.
في المشهد الأخير، كتبت إحداهن من أخصائيات البشرة والتجميل، وصفة لتحسين بشرة الوجه على جروب للنساء والأكلات عبر فيسبوك، قالت في الوصفة إن الحليب وصفة رائعة للتفتيح والوصفة، قد يبدو هذا معروفًا، لكن المميز بالموضوع أن إحداهن علّقت متسائلة "طيّب بينفع حليب مؤن؟" لترد صاحبة المنشور بعلامات استفهام متكررة "؟؟؟؟؟" يبدو أنها لم تفهم ماذا يعني، ولم تدرك أن اللاجئة تعرف ما قد يجهله آخرون وتعيش حياتين.