بيت لحم – خاص قُدس الإخبارية: وحيدة تجلس داخل بيتها الواسع، تمسك القرآن الكريم وتقرأ ما تيسر منه، فيما لسانها يلهج بالذكر والدعاء لابنائها بأن يفك الله أسرهم.
تنظر زوجة الشهيد ووالدة الأسرى الثلاثة إلى جدران المنزل الذي طبعت عليه صور أبنائها الثلاثة، وحفرت في جدرانه صدى أصواتهم، تراهم يتحركون داخل المنزل يمازحون بعضهم كعادتهم، تنتظر أذان المغرب، لكن قلبها مشغول بأسرتها التي قطع الاحتلال أوصالها داخل معتقلاته.
سناء عليان (40 عاماً) زوجة الشهيد أحمد البلبول قائد كتائب شهداء الأقصى في بيت لحم، ووالدة الأسرى الثلاثة محمد ومحمود ونوران، قضت حياتها تقلب أشكال المعاناة وألوانها، أولا باعتقال زوجها ومطاردته ثم استشهاده، وأخيرا باعتقال أبنائها الثلاثة.
استشهاد الحكيم
اعتقل أحمد البلبول عام 1998 مدة سنتين بتهمة تهريب سلاح للمقاومة عن طريق البحر، ومع بداية الانتفاضة الثانية عام 2000 أعلن عن اسمه في قائمة المطاردين، وبقي مطارداً لغاية 8/آذار/2008، حين اغتالته قوة اسرائيلية خاصة في وسط مدينة بيت لحم، مع ثلاثة من أصدقائه المقاومين الذين ينتمون لحركة الجهاد الإسلامي وهم، محمد شحادة، وعيسى مرزوق، وعماد الكامل.
تقول سناء عليان: "في يوم استشهاده هاتفني أحمد وقال لي: أنا اشتقتلكم وجاي أشوفكم، وخرجنا سوية إلى المطعم وتناولنا الطعام، وكان ذلك اليوم عيد عنا، لكن بعد ساعات اغتيل أحمد، وعندما رأيته محمولاً، سقطت مغشياً علي، إلا أن ابني محمد جاء وقال لي: قومي يما، زغردي، أبوي شهيد".
وتوضح سناء، أن زوجها أحمد لم ينم في البيت مدة 10 سنوات متتالية، وكان يحضر لرؤيتها وأبنائهما متخفياً بزي رجل طاعن في السن أو غيره، مبينة أنه تعرض لعدة محاولات اغتيال إحداها تسببت بإصابته برصاصة في الصدر كادت أن تودي بحياته، إذ فقد على إثرها الوعي مدة 20 يوما، ولم يحصل على العلاج المطلوب خوفا من مداهمة المستشفى الذي سيعالج فيها.
وتضيف: "رغم كل ذلك إلا أنه كان الأب الحنون العطوف على ابنائه، المبتسم دائما والمحب للحياة".
بقيت الأم مع أبنائها الثلاثة وحيدين بعد استشهاد الوالد، لكنّها أصرت على إكمال تعليمها الجامعي بدراسة اللغة العربية، ثم عملت كمعلمة في إحدى مدارس المدينة، لتستطيع توفير حياة كريمة لأبنائها، ومحاولة تعويضهم عن فقدان والدهم، كما اهتمت بتعليمهم الدراسات العليا.
تقول: "رغم الظروف الصعبة التي مررنا بها بعد استشهاد زوجي، إلا أنني استطعت إكمال تعليمي، وتعليم أبنائي محمد ومحمود، وبناء منزل جديد للعائلة".
المعاناة توُرث
لكن فرحة سناء بهذه النجاحات المتتالية مع عائلتها لم يكتب لها أن تكتمل دون منغصات، فاستهداف الاحتلال للعائلات الفلسطينية يورث، ونورهان كانت أول عودة الوجع إلى قلب سناء، وذلك عند اعتقالها بتاريخ 13/نيسان الماضي، بزعم حيازتها سكينا.
فبعد أن أنهت امتحاناتها نصف الفصلية، طلبت من والدتها السماح لها بالذهاب مع عمتها للصلاة في المسجد الأقصى، لكن على حاجز 300 شمال بيت لحم تم اعتقالها بزعم حيازتها سكينا.
وتقول والدتها إن نوران (15 عاماً)، طلبت من القاضي في إحدى المحاكم بأن يفرج عنها خلال شهر رمضان وعيد الفطر، لتعيشهما مع العائلة، ويعيد اعتقالها فيما بعد. لكن المحكمة حكمت عليها بالسجن مدة أربعة أشهر مع كفالة بقيمة 2000 شيكل، ووقف تنفيذ لمدة ثلاث سنوات.
وتروي نوران لوالدتها في المحكمة أن المحققين شددوا عليها في التحقيق، عندما علموا أنها ابنة الشهيد أحمد البلبول، وقالوا لها: "أبوكِ كان عامل قائد كبير، وأنتِ شكلك جاية تعملي مثله".
خدوني عند نوران
في الثالث من رمضان اقتحمت قوات الاحتلال بيت الشهيد أحمد البلبول لاعتقال نجليه محمد (26 عاماً)، ومحمود (21 عاماً)، إذ تم اعتقالهما في يوم واحد ولم يصدر بحقهما أي حكم حتى الآن، إذ لا تستطيع سلطات الاحتلال توجيه اتهامات لهما، وسط مخاوف من إصدار قرار اعتقال إداري بحقهما.
محمد الذي يعمل في عيادة الأسنان الخاصة به، ومحمود الذي درس تخصص علم النفس الجنائي في الكلية العسكرية، ويكمل الماجستير في الدراسات الإسرائيلية، تم تحويلهما إلى سجن "عوفر"، تاركين قسرا خلفهما والدتهما يرافقها الألم والشوق والذكريات والصور.
وخلال الاعتقال تعلقت سناء بابنيها وقالت للضابط: "خدوني مع أولادي، ما ضل حدا بالبيت، أنا مش رح اقعد فيه لحالي، هم بتوخدوهم على السجن وأنا بتوخدوني عند نوران بنتي". رد الضابط قائلاً: "لا أنتِ خليكِ هون عشان تضلي رايحة جاية!".
وتقول سناء إنه لم يعد لتناول الأكل طعم بعد اعتقال جميع ابنائها، مضيفة أنها تتناول الطعام المعد سريعاً فقط لـ"كسر الصيام". لكن رغم ذلك فإن أم الأسرى تفخر بابنائها وتعتز بهم، وإن كانت تشعر بالفراغ الآن بعد تغييبهم داخل المعتقلات.