من رحم التوراة ولد في التاريخ مصطلح اسمه «الشعب اليهودي»، ومنه برزت فكرة أو نظرية «النقاء العرقي»، و«النقاوة الجنسية»، أي رؤية اليهود كعنصر عرقي متميز، وأن يهود اليوم أينما كانوا هم ذلك النسل المباشر لـ «بنى إسرائيل» التوراة، ومن ثم فهم مجموعة جنسية واحدة، وقومية تاريخية واحدة، مثلما هم طائفة دينية واحدة، ومن ذلك جميعاً يخلصون، لا إلى تدعيم خرافة «الشعب المختار»، الشعب النقي الخالص فحسب، وإنما كذلك وفي الدرجة الأولى إلى تدعيم خرافة «أرض الميعاد»، واغتصاب فلسطين. النقطة الحاسمة هنا: هل اليهود جنس نقي، ونسل مقدس حقاً؟!
بالرغم من توعد الأنبياء ضد زواج الغرباء، والأمر الصارم صراحة، [سفر التثنيَة (7: 3- 6)]. فإن القبيلة التوراتية لم يكترثوا بهذه التهديدات، وكان قادتهم أول من أعطى القدوة السيئة، بل إن إبراهيم تزوج هاجر المصرية [سفر التكوين (16: 3)].
وتزوج يوسف أسينات ولم تكن مصرية فحسب بل كانت ابنة كاهن [سفر التكوين (41: 45)]. وتزوج موسى ابنة كاهن مدين [سفر الخروج (2: 21- 22)]. وكانت الجدة الكبرى لداوود موآبية، [سفر راعوث (4: 13)]. وتزوج داوود من بِنْتِ مَلِكِ جَشُورَ [سفر صموئيل الثاني (3: 3)]. أما سليمان فقد كان مولعاً بالنساء «الغربيات»، وعرفته التوراة بشهوانيته [سفر الملوك الثاني (11: 1- 3)].
ويمكننا العثور على اقتباسات كثيرة أخرى تبرهن على دحض خرافة «النقاء العرقي»، و«النقاوة الجنسية». ويكفي أن نشير إلى مصطلح «تهوَّدوا» في سفر أستير (8: 17) وهذا الإعلان الصريح عن الانضمام الجماعي إلى اليهودية.
كما يتحدث فيلو عن كثير ممن اعتنقوا اليهودية في اليونان، ويروي فلافيوس جوزيفس أن نسبة كبيرة من سكان أنطاكية اعتنقوا اليهودية، والتقى القديس بولس في أثناء رحلته في كل مكان تقريباً بين أثينا إلى آسيا الصغرى بعدد ممن تحولوا إلى اليهودية.
ولكن ما سبب انتشار واتساع رقعة الديانة اليهودية إذن؟! يجيب د. شلومو ساند، البروفيسور في جامعة تل أبيب، في كتابة «اختراع الشعب اليهودي» بالقول: يرجع سبب انتشار واتساع رقعة الديانة اليهودية إذن، من وجهة نظره، إلى حركة التهَّوُّد الواسعة. وبطبيعة الحال فإن حركة الالتحاق هذه لم تُقابَل بلا مبالاة يهودية وإنما أُديرت بمساعدة سياسة تهويد ودعاية دينية نشطة أخذت تحرز نجاحات حاسمة مع انهيار العالم الوثني».
إذن فعملية التهَّوُّد لم تقتصر على العصرين اليوناني والروماني فحسب، وإنما امتدت لفترة طويلة بعد ذلك، كما ذكر هـ .ج. ويلز، في كتابة «معالم تاريخ الإنسانية»: «فقد ظلت اليهودية زمناً طويلاً فاتحة ذراعيها مرحبة بمقدم كل من ينضوي مخلصاً تحت لوائها من أبناء الشعوب الأخرى».
وبالرغم من انهيار نظرية «النقاء العرقي»، و«النقاوة الجنسية» بمجرد قراءة سريعة لبعض النصوص التوراتية. إلا أن الحركة الصهيونية اخترعت من خيالها شعب تاريخي لتدعيم كيانية «الأمة اليهودية العريقة». ولكن كيف يكون ذلك ممكناً ما دام اليهود مجموعة مهجنة على هذا النحو الذي أوضحته التوراة؟! إننا ينبغى أن نلفت الأنتباه إلى أن هناك علاقة حتمية بين الدراسة الأنثروبولوجية وبين الجانب السياسي، فقد سخرت الحركة الصهيونية الأبحاث الأنثروبولوجية ورتبت نتائجها مسبقاً بحيث تخدم دعاواهم الاستعمارية في فلسطين.
إن «النقاوة الجنسية» المزعومة لهم إنما هى محض «خرافة» كما يعبر ربلي، والواقع أن هذه قضية لم تعد، بل لم تكن قط، موضع جدل بين العلماء. فقد أكد رينان (Ernest Renan) سنة 1883: «ليس هناك نمط يهودي بل هناك أنماط يهودية». ولخص رافائيل باتال جدلاً مريراً عريق القدم في العبارة التالية: «أظهرت نتائج أبحاث علم الأجناس البشرية أنه ــ خلافاً للرأى الشائع ــ ليس هناك جنس يهودي حيث تدل قياسات الأجسام البشرية التى أجريت على مجموعة من اليهود أنهم يختلفون بعضهم عن بعض اختلافاً بيناً في كل الخصائص الجسدية الهامة: القامة ــ الوزن ــ لون البشرة ــ الدليل الرأسى ــ الدليل الوجهى ــ فصائل الدم ... الخ».
يقول العلامة لامبروزو: «إن اليهود المعاصرين أقرب إلى الجنس الآري منهم إلى أي جنس آخر، وإنهم طائفة دينية تميزت بمميزات اجتماعية واقتصادية.
وانضم إليها عبر القرون أناس ينتمون إلى شتى الأجناس البشرية، وبينهم عدد من سكان الحبشة، ومن الألمان الآريين، ومن التاميل من الأقوام الهندية، ومن الخزر من الجنس المنغولي، الذين تحولوا كما يقول المؤرخ اليهودي ابن ميمون إلى اليهودية في القرن العاشر، ثم دفعتهم الهجرات البشرية إلى أوروبا الوسطى والغربية.
وقد أكد ذلك علماء بايولوجيون كثيرون منهم الأستاذ جوزفيتيش أستاذ علم الانسان في الجامعة العبرية نفسها، فقد أجرى عدة تجارب بايولوجية على المهاجرين اليهود إلى (إسرائيل) وسجل النتائج التي توصل إليها في كتاب بَيّن فيه أن اليهود ليسوا شعباً واحداً، بل طائفة دينية تضم جماعات مختلفة من الناس، اعتنقوا ديناً واحداً، فنسبة ضئيلة من يهود الأقطار العربية هم من نسل يعقوب واسحق. أما يهود أوروبا الشرقية فينتسبون إلى قبائل الخزر، وأما يهود أوروبا فمن أصل أوروبي صميم وقد اعتنقوا الدين اليهودي بعد القرن الثالث الميلادي على أيدى مبشرين من اليهود».
وإلى نفس المدرسة والرأى ينتمى مؤلفو كتاب «نحن الأوروبيين»، وهم جوليان مكسلي وهارون وكار سوندرز: «إن اليهود ـ هكذا يؤكدون ــ من أصل مختلط، وقد ظلوا باستمرار يزدادون اختلاطاً». ثم يضيفون «كان هناك دائما قدر معين من التزاوج بين اليهود وغير اليهود من سكان البلاد التى أقاموا فيها... بحيث إن عدداً من الجينات المستمدة من اليهود المهاجرين يتوزع بين مجموعة السكان.
وإن المجتمعات اليهودية أصبحت تشبه السكان المحليين في كثير من الخصائص. وبهذه الطريقة أصبح يهود افريقيا وشرق أوروبا وإسبانيا والبرتغال... الخ مختلفين بوضوح عن بعضهم البعض في النمط الجسمى».
يؤكد نفس الكتاب الفكرة في موضع آخر قائلين: «والنتيجة أن يهود المناطق المختلفة ليسوا متماثلين جينياً وأن السكان اليهود في كل بلد يتداخلون ويتشابكون مع غير اليهود في كل صفة يمكن تصورها. وكلمة يهودي صحيحة كوصف اجتماعى ــ دينى أو شبه قومى أكثر منها كتعبير انثولوجى.
فى أى معنى جينى (ولو أن هذا لا يقصد به أن اليهود أمة بالمعنى المفهوم للكلمة). وكثير من الصفات «اليهودية» هي بلا شك نتاج التقاليد والتربية اليهودية خاصة رد الفعل ضد الضغط الخارجى والاضطهاد أكثر منه نتاج الوراثة».
مرة ثالثة يضغط هؤلاء المؤلفون على نفس الانتهاء فيقولون إن: «ما احتفظوا به وورثوه ليس «صفات جنسية» بل تقاليد دينية واجتماعية. فاليهود لا يؤلفون جنساً محدداً وإنما مجتمع يشكل جماعة شبة قومية ذات أساس ديني قوي وتقاليد تاريخية خاصة. وإنه لخطأ غير مشروع أن نتكلم عن «جنس يهودي» تماماً كما لو تكلمنا عن جنس أرى».
يقول الأستاذ يوجين بيتار: «إن اليهود يعودون إلى طائفة دينية وهيأة اجتماعية دخلتها عناصر من أجناس متباينة ألصقوا أنفسهم بها وأتى هؤلاء المتهودون من كل السلالات البشرية كفلاشا الحبشة والألمان الجرمانيين والتاميل ــ اليهود السود ــ والهنود والخزر والأتراك». ثم يضيف إلى ذلك قوله: «ومن المستحيل أن نتصور أن اليهود ذوي الشعر الأشقر أو الكستنائي، والعيون الصافية اللون، الذين نلقاهم كثيراً في أوروبا يمتون بصلة القرابة ــ قرابة الدم ــ إلى أولئك (الإسرائيليين) القدماء الذين كانوا يعيشون بجوار الأردن».
ولكن إذا كان اليهود المعاصرين ليسوا أحفاد القبيلة التوراتية، فمن أين أتوا؟! في العام 1976 ألقى آرثر كوستلر قنبلته الأدبية التي حملت العنوان «القبيلة الثالثة عشرة»، والتي ترجمت إلى لغات عديدة وأثارت موجة من ردود الفعل المتباينة.
أوضح فيها أثر الخزر في تكوين اليهود المعاصرين، وخلاصة ما ينتهي إليه أن «غالبية اليهود العصريين ليسوا من أصل فلسطيني بل من أصل قوقازى. فإن التيار الأساسى للهجرات اليهودية لم يتدفق من البحر المتوسط عبر فرنسا وألمانيا إلى الشرق ثم العودة مرة أخرى، بل اتجه التيار على نحو ثابت إلى الغرب من القوقاز غبر أوكرانيا إلى بولنده ومن هناك إلى أواسط أوروبا ــ وعندما نشأت في بولنده تلك المستوطنات الجماعية التى لم يسبق لها مثيل، لم يكن هناك في الغرب أعداد من اليهود تكفى لتفسير هذه الظاهرة، على حين كان هناك في الشرق أمة بأسرها تتحرك نحو حدود جديدة. وبطبيعة الحال سوف يكون من الحماقة أن ننكر أن يهوداً من أصل مختلف أيضاً في المجتمع اليهودي الكائن في عالم اليوم، ومن المستحيل أن نحدد النسبة العددية لمساهمة الخزر إلى مساهمات الساميين وغيرهم، ولكن ما تجمع من البراهين يجعل المرء ميالاً إلى الاتفاق مع إجماع المؤرخين البولنديين على أنه (في الأزمنة المبكرة نشأت الكتلة الأساسية من اليهود أصلاً من بلاد الخزر) ومن ثم تكون مساهمة الخزر في التركيب الوراثي لليهود مساهمة جوهرية بل ومهيمنة في كل الاحتمالات».
فقد كانت قبائل الخزر أكبر الكتل المتهودة، فقد اعتنق أهلها الديانة اليهودية في العصور الوسطى، وأقدم معلوماتنا عن انتشار اليهودية في الخزر وصلتنا من الرحالة العربي ابن فضلان، الذي أوفده الخليفة العباسي المقتدر بالله عام 309 ه / 921 م، في بعثة إلى ملك الصقالبة [البلغار]. وتحدث المسعودي مطولاً عن تهوّد ملك الخزر (الخاقان). الذي تم في عهد هارون الرشيد (103 ـ170 هـ) (686 ـ 809 م).
وتدل الحوادث التاريخية على أن اليهودية لم يكتب لها أن تدوم في الخزر حيث جاءت حملة الروس بعد حوالي قرن ونصف من دخول اليهودية إلى الخزر، فقضت على مملكة الخزر بأكملها وتشرد أهلها وانتشر معظم اليهود في روسيا وأوروبا الشرقية. وقد أورد خبر هذه الغزوة واجتياح الروس لمنطقة نهر أتل، ابن حوقل، فعيّن تاريخها في سنة (358 هـ / 968 م).
إذن لا وجود لليهود كـ»أمة وشعب وجنس«، ولا وجود لليهود كـ»هوية قومية أو عرقية مشتركة كمجتمع إنساني«، ففي دولة تعرف نفسها كـ»دولة يهودية«، وتزعم أنها تأسست منذ البدء من أجل ما يسمى بـ»الشعب اليهودي« بعد ألفي سنة من الشتات. عليها الإجابة عن السؤال التالي، من هو »الشعب العرقي اليهودي؟!«.