الخليل – خاص قُدس الإخبارية: أيقظَته أمه ليصلي الفجر مع والده في المسجد، وبعد الصلاة عاد محمد ليخلد للنوم مرة أخرى، وفي الصباح خرج الجميع من المنزل إلا محمد، فموعد محاضراته في الكلية كان عند الساعة 11، وقد بدا ذاك الصباح عادياً جداً.
استيقظ محمد الشوبكي وفتح حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وكتب: "كرمال الوطن الغالي .. كرمال الأقصى .. كرمال شهدائنا #وحش_الوطن". ثم أقفل حسابه الذي كان قد عرف نفسه فيه بـ"شهيد على قائمة الانتظار"، وأقفل هاتفه النقال أيضا وانطلق.
توجه محمد إلى مدخل مخيم الفوار جنوبي الخليل، حيث النقطة العسكرية الدائمة لقوات الاحتلال، اقترب خطوة تتبعها خطوة، وهو بالاقتراب من هدفه يعلم أنه صار أدنى من الشهادة والمنازل العليا، استل سكينه من غمده ليغرسه في الجزء العلوي من جندي إسرائيلي كان متواجداً هناك، مما أدى لإصابته بجروح خطيرة، على الفور أطلق جنود الاحتلال وابلا من الرصاص على الفدائي فسقط أرضا.
تناثر دم محمد في المكان، وعبّق دمُه ثيابَه والأرضَ، لكنه لم يستشهد بعد، حينها بدأ ضباط المخابرات وجنود الاحتلال الذين حضروا إلى المكان مساومة محمد على حياته طالبين أن يخبرهم بهوية من أرسله لتنفيذ العملية مقابل علاجه، لكن محمد اكتفى بالرد: "الله أكبر .. الله أكبر".
ترك محمد وحيداً ينزف، وبينما منع الإسعاف الفلسطيني من تقديم العلاج لمحمد، قدم الإسعاف الإسرائيلي العلاج للجندي المصاب، قبل أن ينقل إلى مستشفى "هداسا" بالقدس المحتلة بعد أن كان قد نزف بشكل كبير، وهناك أٌعلن عن استشهاده بعد ساعات قليلة ثم نقل جثمانه إلى ثلاجات الاحتلال ليبقى رهن الاعتقال فيها قرابة الشهر.
يعود إسماعيل الشوبكي بذاكرته 20 عاما إلى الوراء، ويتوقف تحديدا عند تاريخ 17/كانون أول/1994، عندما أحضر شهادة ميلاد لمحمد فرحا بها كونه ابنه الأول، ثم يتذكر كيف أحضر بتاريخ 25/تشرين ثاني/2015 شهادة وفاته، في موقف يصفه بأنه أصعب ما تعرض له في حياته.
وأكثر ما يميز محمد طيبة قلبه وابتسامته التي لا تغادر محياه، وأخلاقه الرفيعة، ونخوته ورجولته وغيرته على حرائر فلسطين، وتفاعله مع قضايا شعبه وعلى رأسها ملف الأسرى والحروب على غزة، كما يقول والده.
أما والدته منال الشوبكي فما زالت تستذكر محمد في كل لحظاتها، قائلة إنه كان المعين لها حتى في أعمال البيت، وتقول: "محمد أكثر إنسان عاش معي لحظاتي وحياتي، ولم يكن يتحرج كما شباب اليوم من مساعدتي في أعمال البيت أو تجميع الملابس التي جفت، أو غسل السجاد على سطح المنزل".
محمد الذي درس للمرحلة الثانوية في مدارس الفوار، قرر الالتحاق بكلية العروب التقنية لدراسة التخصص الذي طالما أحبه وهو التصميم الجرافيكي، والذي طوّعه لخدمة القضية الفلسطينية كالأسرى وغزة والمخيمات عبر كثير من التصاميم والرسومات التي خطتها يداه، والتي تدعم القضايا الوطنية الوحدوية، قبل أن تتوقف مسيرته عند الفصل الدراسي الأخير بعد أن قرر نيل شهادة مكتوبة بالدم.
وحلم محمد كغيره من الشبان بتأسيس حياة مستقرة، يفتتح في بدايتها مكتباً للتصميم الجرافيكي متخذا من هذا المجال مهنة له ومصدرا لرزقه، ثم يخطط لزواجه ليقر عيني والديه بأحفادهما، وقد كان دائما يقول لوالده: "يابا أنا رح افتح مكتب تصميم جرافيكي، وبالمستقبل بعد تقاعدك عشان ما تزهق بشتغل أنا وياك فيه، انت بتشتغل بالإدارة وأنا بالتصميم، وكمان رح أخطط عشان أبني مستقبل منيح لاخوتي".
وتروي أم محمد بأسى قائلة إن العائلة عاشت حالتي اضطراب وتوتر، الأولى كانت في نفس يوم استشهاده، عندما تضاربت الأنباء حول استشهاده من عدمه، إلى حين أكدت المصادر الإسرائيلية مفارقته للحياة عصر ذلك اليوم.
أما الحالة الثانية فهي باحتجاز الجثمان مدة 32 يوماً في ثلاجات الاحتلال، فتقول: "هذه كانت من أصعب الفترات الي عشناها، فنحن لا نعلم مكان محمد، وننتظر استلام جثمانه ليتم تكريمه ودفنه، والحمدلله ارتاح بالنا عند تشييعه ودفنه، وأنا أدعو الله دائما أن يتسلم أهالي الشهداء المحتجزة جثامينهم أبنائهم لصعوبة الموقف الذي يعيشونه الآن".
وسلمت سلطات الاحتلال جثمان الشهيد محمد الشوبكي بتاريخ (27/كانون أول/2015)، ليشيع من منزله إلى مقبرة الفوار بعد صلاة العشاء، في مسيرة حاشدة شهد لها جميع من في المخيم. يقول والده: "بالتأكيد الجرح لن يدمل، فألم الفراق والاشتياق صعب جداً، ومحمد ستبقى ذكراه في قلوبنا وعقولنا، لكنّا نعزي النفس بالمرتبة التي نالها في جنّات النعيم".