غزة- خاص قُدس الإخبارية: في صباحٍ عادي من صباحات الحصار الذي أكل من عمر الفلسطينيين و شرب استعدت أسماء للخروج إلى العمل، تجهزت و حملت برفقتها جهاز التابلت الذي لا تفارقه؛ نظرًا لعملها الإخباري في مجموعة خاصة بالواتساب، و قبل خروجها و فقدان أثر شبكة الانترنت المنزلية تصفحت الأخبار المحلية، و إذ بخبر يقفز على سطح يوميات حسابها الفيسبوكي مفاده حريق أطفال ثلاثة من عائلة أبو هندي في مخيم الشاطئ للاجئين
انقلب الصباح العادي إلى جرعة قهر، تمسمرت أسماء خلف جهازها، توقفت أصابعها عن التحريك للأعلى و للأسفل، كل ما فعلته أن جلست على كرسي تحاول أن تستوعب الموضوع، كأن شرارة صاعقة أصابت عقلها.
بعد مرور بضع دقائق من الخبر الكارثي عادت "أسماء الصانع" لمشاهدة الصور والفيديوهات التي تتحدث عن الموضوع فاستاءت نفسيتها، من رؤية جثث متفحمة وهى في عمر الورود، ومن صراخ أم هدها الفراق، وأب فجعه القدر في لحظة. و أسئلة صحفيين تثير شجون العائلة المقهورة لا تطيب خاطرها.
قطع المنبه الذي ينذر بساعة العمل أطفأته دون تردد شرودها، لكن ما زاد الحيرة في ذهن أسماء و قلبها هو كيف لشمعة أن تحرق ثلاثة صغار وتشوه الرابع ويضطر للعلاج بالخارج، وتكسر قلب أم وأب لا حول لهم ولا قوة ولا منزل جيد ولا عمل.
بعد ساعة من مشاهدة الخبر، الذي حرق قلوب الغزيين المحترقة أصلًا، قررت أسماء أن تنفض غزل اليأس، وأن تكون معول بناء في مشكلة الكل يلقي باللوم فيها على الآخر، بينما ردود نشطاء الفيسبوك كانت تشعرها بالغثيان، حيث لا أحد للحظة الحرق أطلق حملة، أو مبادرة لحماية الفقراء من الشموع.
حدثت أسماء نفسها، "لمَ لا أعين عائلة للتخلص من الشموع"، "ماذا يعني أن ينقص من مائتي وخمسين دولارا من راتبي الشهري، خمسون دولار" وأشتري بطارية لعائلة.
دخلت أسماء في صراعٍ نفسي مع ضغط الصور للأجساد المحترقة، و ضغط التساؤلات حيث راتبها الشهري بالكاد يكفيها، بينما هناك مسؤولون يستخدمون سولار سياراتهم أضعاف راتبها هم أولى بهكذا مبادرة. لكن قطعت سيل الاسئلة بسيف التكافل. وتحملها لمسؤوليتها المجتمعية في الحي الذي تعيش فيه.
في اليوم ذاته، وبدلًا من أن تخرج أسماء للعمل خرجت لمحل خاص ببيع بطاريات آمنة، و اشترت البطارية و (الليدات) الخاصة بها، و ذهبت لعائلة في مخيم النصيرات قريبة من مكان سكنها، و سلمتها البطارية، لم تسأل أسماء نفسها هل هذه العائلة توافق طيفي السياسي أم لا! طرقت الباب وكل ما في مخيلتها هو كيف تنقذ أرواح الأطفال هنا؛ كي لا تستيقظ ذات يوم على فاجعة حرق جديدة.
قررت أسماء أن تصبح المبادرة عملا جماعيا, جاءتها هذه الفكرة في طريق عودتها إلى مكتب العمل، فقامت بنشر منشور عبر فيسبوك ضمن وسم حمل عنوان المبادرة #ليدات_بدل_شموع يحث الأفراد على المشاركة في المبادرة، وفعلا بدأت تنهال عليها طلبات التبرعات من داخل غزة وخارجها، "من ماليزيا، و قطر، والسعودية، و مصر" وتواردت إليها طلبات الأصدقاء بالمساهمة في جمع التبرعات، وتركيب البطاريات للعائلات المستورة.
يومان كاملان قضتهما أسماء في جمع تبرعات فاقت الأربعين عائلة، و ما زالت المبادرة جارية حتى كتابة هذه القصة، و انتقلت إلى أشخاص أخرين فعلوها في أحيائهم السكنية في جميع محافظات غزة.
وعلى مدار ذهابها لجمع التبرعات من بعض الأشخاص تقول أسماء، "صور الأطفال المحترقين يسرى، رهف، ناصر تلاحقني، تخيلتهم أبناء شقيقتي الذين أحبهم، ساعات صعبة عشتها لعنت فيها الظلام و من يجبرنا على العيش فيه".
تجوب أسماء قطاع غزة لجلب التبرعات من أصحابها، كرست وقتا لنجاح المبادرة، لم تتأفف وتترك المسؤولية التي تبنتها، فيما تستذكر موقفا حصل معها، حينما قال رب أسرة مكونة من أربعة أطفال بعدما تم تركيب شبكة ليدات في بيتهم، "يلا انبسطوا يابا هيصير عندكو ضو بالليل"
ومن دافع ايمانها بالمساواة بين الأفراد واستحقاق حقوقهم، تقول الصانع، "واجبي كما أحيا على بطارية أن يعيش الفقراء على بطاريات تنير حياتهم، لا أن تكون حياتهم مرهونة للشمع يفترسها في غفلة"، حيث وصل عدد ضحايا الكهربا إلى 29 فلسطينياً بينهم 24 طفلاً، وفقًا لاحصائية حقوقية.
"من الصعب جدًا أن نبقى نشاهد مآسينا الوطنية الكبرى، ونتراشق الاتهامات ودماء الضحايا لم تجف بعد، فعلى كل مواطن فينا أن يكون جزء من الحل لا المشكلة، فهذه البلاد بلادنا لسنا ضيوف فيها"، تقول الصانع، التي ما زالت تكابد التعب في سبيل استمرار المبادرة التي وجدت من يدعمها، ووجدت من ينتقص منها، فالاستمرار في عملٍ مجتمعي نبيل وفق وصفها خير من هدر الوقت بالتراشق الإعلامي الفج الذي لا ينقذ روحا ولا يسمن من جوع.
تجدر الإشارة إلى أن الناشطة "أسماء الصانع" (25) عامًا ، يتابعها أكثر من 7000 شخص، وهي أول من قام بهذه المبادرة قبل تشييع جثامين الأطفال، و بعدها تمددت المطالبات كبقعة الزيت بضرورة الاستغناء عن الشموع للتخفيف من أزمة الكهرباء التي يبدو أنها ستستمر في ظل انقسام سياسي بغيض.