قبل أيامٍ وأثناء مروري المعتاد بدوار عتصيون، خلال عودتي من الخليل إلى بيت لحم، والذي أصبح مسرحاً لأغلبية عمليات الإعدام الميدانية في انتفاضة القدس، وبات يتفنن به المحتلون بأحدث طرق القتل الفوري والفصل العنصري والكراهية، حيث دأبت وجميع ركاب سيارة النقل العمومي التي نستقلها بالدعاء في سرّنا؛ كي نتعدى هذه الأمتار القليلة سالمين، بلا أي رصاصةٍ تثقب أجسادنا من قناصٍ ارتاب من حركةٍ طبيعية قام بها السائق أو أحد الركاب.
وبعد أن عبرنا بقعه الموت هذه وتنفسنا الصعداء، عاد الدم من جديد إلى عروقنا، واسترجعنا حياتنا الطبيعية من استرخاءٍ ومزاحٍ ومجادلات، وانهالت دعوات البعض على الذين جائوا من كل بقاع العالم إلى هنا بحثاً عن وطنهم المفقود، ولم يقبلوا أن يواجهوا حقيقة أن هذا وطن غيرهم ففظّعوا وقطّعوا وهدّموا.
وخلال أحاديثنا في هذه الرحلة التي لا تتعدى الأربعين دقيقة، ذكر لي السائق قصةً عن ضابطٍ إسرائيليٍ متقاعدٍ من المخابرات، قال لأحد العمال الفلسطينيين بالداخل المحتل أن على الفلسطينيين أن يحمدوا ربهم على نعمة "إسرائيل".
عندها تسائل عن السبب الذي يجعلنا نحمد ربنا على من سلب أرضنا واستباح دمائنا، فقال إنه لم يبكِ في حياته ولا لمرةٍ واحدةٍ على طفلٍ عربيٍ إلا حينما رأى أطفال سوريا وكيف تذبح، وأن ما يقوم له العرب تجاه بعضهم لا يقارن بما تقوم به "إسرائيل".
سوريا والفلسطينيين
رغم كل المعيقات السياسية، إلا أن شعب فلسطين لم ينسلخ يوماً عن سوريا الكبرى، وظلّ الفلسطينيون مخلصين للشام كما بقي الشاميون مخلصين لقدسهم وفلسطين التي من أسمائها "سوريا الصغرى".
ولم تسكت فلسطين يوماً أو تتقاعس عمّا حدث لأختها الكبرى، وأبدى الفلسطينيون جميعاً ردود فعلهم وتحفظاتهم حول الحرب في سوريا، وقد انقسموا لعدة انقسامات.
فمنهم من قال إن الأوان قد آن كي تتحرر سوريا من الأسد وطغيانه، وهؤلاء انقسموا بين مجموعات متعددة تبعاً للجماعة التي رأوا فيها تمثيلاً لتطلعاتهم، ومنهم من قال إنها مؤامرةٌ أمريكيةٌ صهيونيةٌ لتدمير سوريا، ونهب خيراتها ودكّ الجيش السوري ليُبعد لجولان وفلسطين عن أولوياته.
حدّثني عن حلب
من زار حلب له حسرة، ومن لم يزرها فله حسرتان، حسرةٌ على ما لحق بأكبر مدينة سوريةٍ سكاناً وتاريخاً واقتصاداً من خرابٍ وتدمير، والحسرة الثانية على عدم زيارتها قبل أن تخسر كثيراً من معالمها التاريخية والحضارية.
حلب الشهباء بأهلها الشهماء التي لطالما روي عن بسالتهم وكرمهم، قد وقعت الآن في مرمى نيران من يسميهم البعض أصدقاءً، فخلال الأيام الماضية سقط مئات القتلى والجرحى في غاراتٍ جويّةٍ شنها كلٌ من الطيران النظامي السوري والروسي.
تناثرت الجثث في الشوارع وتحت الأنقاض، ولأول مرةٍ منذ فتحها الإسلامي لم تُقم صلاة الجمعة في حلب خوفاً على حياة مدنييها، فكما قُصف المستشفى ومرضاه في حلب يُقصف المسجد ومن بداخله من مصلين بلا أي تردد.
وسواء كانوا قواتاً موالين للنظام أو معارضين متحصنين في أحيائها، فإن أياً منهم لم ينصر حلب التي لم يختلف وضعها عن أي مدينةٍ سوريةٍ أخرى، وخذلوها وخذلوا سكانها، بل كانت حلب وسكانها آخر همهم، وربما لم تكن بالنسبة لهم أكثر من مربعٍ صغير على رقعة شطرنج.
إذاً، لماذا حلب؟
ورغم ذلك فهناك اهتمامٌ عالميٌ غير مسبوق بقضيه حلب وبشكلٍ أكبر من غيرها من النقاط الساخنة في الساحة السورية، رغم الإهمال الكبير لعشرات الألوف من الضحايا في أماكن وأزمنةٍ مختلفةٍ في سوريا، وهذا ما يعيد للأذهان التعاطف الدولي مع قضية التطهير العرقي للمسلمين بالبوسنة والهرسك.
ربما لبروز دور روسيا بالموضوع وبمقابلها القطب الموازي أمريكا، بسياستيهما المتناقضتين ومباحثاتهما الفاشلة لإحلال هدنةٍ أخفقت قبل حدوثها، رغم أنهما في الحقيقة وجهان لعملةٍ واحدة، ولأن الجهاد سهلٌ بجوار أمريكا، فقد لاقت قضية حلب تجاوباً كبيراً على مواقع التواصل الاجتماعي ومن الإعلام العالمي.
كونوا عقلاء ولا تكونوا لؤماء
اللافت والمثير للدهشة أن الآراء الوسطيه ندرت في الأزمة السورية، وكأن الجميع أجبر على الانحياز لطرفٍ ما، ربما لمكانة سوريا في قلب كلّ فلسطيني، بغض النظر لمن أبدى انحيازه.
والأرجح في نظري أنه على الفلسطينيين وكلّ العرب أن يكونوا عقلاء حيال ما يجري في سوريا، وأن يعترفوا بحقيقه المؤامرة التي أصبحت أنصع من ضوء الشمس في وضح النهار، والتي تحاول النيل من سوريا بشتى السبل وإضعافها، وفي الوقت نفسه علينا ألا نكون لؤماء وقساة قلوب تجاه ما يجري من قتلٍ وتهجيرٍ وتدمير، ونؤيد من يرتكب الجرائم بحجة حماية سوريا والمنطقة من المؤامرات.
إن من ساندنا أكرمنا وحارب لأجلنا حقاً، وأخلص لنا وغنى لنا ودعمنا بشهامة هم الشعب السوري بكافة فئاته وأطيافه، وليس تلك الأنظمة المتعاقبة التي لم تكن فلسطين بالنسبة لها سوى دعايةٍ سياسية لكسب الجماهير.
حلب طائر الفينيقيزن، أحد أصدقائي السوريين المخلصين لفلسطين وقضيتها، شبّه حلب بطائر الفينيق، والذي لطالما تعاقبت عليها الزلازل والمذابح والغزوات، لكنها ولدت وازدهرت من رحم رمادها وباتت أقوى من ذي قبل، وعادت وصنعت أمجاداً أعظم وأكبر من أمجادها السابقة.
ولا تحتاج حلب وأهلها لمعوناتٍ ومساعدات، ولا تريد إمداداتٍ ونجدات، وليست في حاجةٍ إلى دبابات العرب وأساطيلهم البلاستيكية، فهي أعزّ وأقوى من أن تكون في عوزٍ ممن سيسخر منهم التاريخ، وسيذكر كيف تفرقوا وتشتتوا وقاتلوا بعضهم وفنوا كالبلهاء.
سامحينا يا حلب.. لكِ الله..