بيت لحم – خاص قُدس الإخبارية: "ولك شوف هالمجنون فريد وين راح" .. "شوفه كيف لاحق الجندي وبده يضربه الكوع" .. "ولك شوي وبده يدخل وراه على البرج" .. "انتبهوا والله شكلهم رح يطخوه".. هذا الحديث دار بين بعض الشبان خلال مواجهات بمخيم عايدة شمالي بيت لحم، أما فريد فقد كان اسم الشهرة للشهيد عبدالحميد أبو سرور، حيث يروي رفاقه أنه لاحق جنديا فر هاربا من حجارته إلى البرج، حتى نفذ ما أصر عليه بإلقاء الكوع المتفجر من نقطة قريبة جدا.
بعد انتهاء المواجهات عاد عبد الحميد أو فريد كما عرف إلى المخيم، ووجد أصدقاءه الأطفال ولاعبهم، ثم مشى خطوتين والتقي بمسن يحمل أكياساً فساعده في حملها وأوصله إلى البيت، وقريباً من بيته وجد أحد أقاربه فطلب منه مساعدته في شؤون له ليوافق عبدالحميد دون تردد على ما طلب منه.
"شديد على العدو رحيم على أهله"
عرف عبد الحميد بشخصية متناقضة تجمع ما بين الطفولة والحنية والمرح وخفة الظل، يظهرها لكل من أحبهم من أهل بيته أو مخيمه، وما بين القسوة والغلظة وشدة القلب وعدم الرأفة، وقد اعتاد أن يستخدمها دائما تجاه المحتل الإسرائيلي، فكان يضرب بيد من حديد خلال المواجهات التي كانت تندلع بشكل شبه يومي في مخيم عايدة.
تقول أزهار أبو سرور (44 عاماً) واصفة نجلها، "عبود حنون جداً على أفراد عائلته، يعني بتذكر لما اولدت شام شقيقته الصغرى أجا هو على المستشفى ونام عندي، ولما اعملت عملية العام الماضي كان بقدم امتحانات وكمان أجا عندي على المستشفى وجاب كتابه معه، وكمان بتذكر إنه لما كنا نزور بيت جده بسوريا كان في طفل بيشتغل بمحل قريب منهم، وعبود كان يحزن عليه ويعطيه مصروفه وياخد غداه وينزل يتقاسمه معه، حتى إنه حنون على أي حيوان كان يشوفه بطريقه، كتير كان يهتم لما يشوف كلب مجروح أو قطة جوعانة أو حصان مكسورة رجله".
فيما يتحدث محمد أبوسرور (50 عاما) والد عبدالحميد عن المزيد من صفات مفجر #باص12 موضحا، أنه كان مرحاً ويتصرف بطريقة عفوية، تشعرك بأنه ما زال طفلاً، حتى أنه كان يقول له، "يابا اكبر واعقل، صرت أطول مني".
ويستدرك، "لكنه في ذات الوقت كان حكيماً وصاحب مبدأ في حياته، يحكم عقله إذا واجهته مشكلة ما، بالإضافة إلى كونه قياديا في مخيم عايدة .. عبود من ظاهره طفل، لكن في داخله رجل وقلب شجاع لا يرضى الذلة، فهو ذهب في زمن لا رجال فيه".
تعلق عبد الحميد كثيراً بشقيقته الصغرى "شام"، فهي الأخت الصغرى التي أتت بعدما صار "عبود" شاباً يُعتمد عليه، تقول والدته، "كان عبود يحكيلي اتركي شام عندي، أنا رح أهتم فيها، البسها وأطعميها واخدها معي مشاوير، كان جداً متلعق فيها، حتى لما اولدتها نام جنبها بالمستشفى".
أما خاله همام أبو سرور فيقول إن عبد الحميد شخص رقيق جداً، ليس عدوانياً أبداً، لا يمكن أن يضرب أحداً، لكنه كان يقول دائما "أنا ما بقدر أعيش حياة الذل هاي"، وهو ما أكد عليه بتفجيره حافلة مستوطنين رفضا لإذلاله وشعبه.
أسد أخرجت الانتفاضة نيوبه
عبد الحميد الذي عرف بتسامحه وبساطته، وعدم التفاته للمظاهر الخداعة، ولد بتاريخ (6/تموز/1997)، ودرس في مدرسة (SOS) الخاصة في بيت لحم، ثم انتقل لمدرسة ذكور بيت لحم الثانوية ليختار الفرع العلمي. وارتبط "الفريد" بمخيمه "عايدة" ارتباطا وثيقا، واعتاد أن يقضي فيه معظم أوقاته، على الرغم من أنه كان يسكن في بلدة بيت جالا، حيث تقول والدته، "دايما كنت احكيله والله يما بحس إنه البيت فندق للنوم بس، كل وقتك بمخيم عايدة".
وحسب شبان من المخيم، فإن عبد الحميد اعتاد أن يكون كالأسد في المواجهات، لا يخشى الغاز المسيل للدموع ولا يقيم اعتبارا للرصاص، كما أن عبد الحميد كان ينصب كمائن لجيش الاحتلال داخل مقبرة مخيم عايدة، ويتحضر جيداً وعندما يتقدم الجنود كان يرشقهم بالحجارة.
وتبين أزهار والدة عبدالحميد، "لما كان يسمع في مواجهات بمخيم عايدة، بسرعة يروح يلبس ويطلع على المخيم ليشارك بالمواجهات، والناس في المخيم كانت تحكيلي ديري بالك على ابنك، هو كتير جريء وقلبه قوي وما بخاف من الجيش، ديري بالك بلاش يطخوه أو يعتقلوه".
ويقول والده، إن عبد الحميد شارك في عرض عسكري لحركة حماس العام الماضي، في ذكرى استشهاد أحد قادتها، وألقى كلمة باسم كتائب القسام، فتلقى بعد ذلك استدعاء من الأجهزة الأمنية للتحقيق معه، مبينا أنه تعرض خلال ذلك للضرب والشبح لساعات.
[caption id="attachment_91183" align="aligncenter" width="600"] نشطاء يقبلون رأس والدة الشهيد عبدالحميد في عزائه[/caption]وعن تأثره بالانتفاضة تقول الأم، "كان أول ما يصحى من النوم يسأل شو صار عمليات اليوم؟ حدا استشهد؟ حدا مات من اليهود؟ وكان يحزن لما يستشهد شاب بعد إعدامه بدم بارد، وكان طول اليوم يتابع الأحداث والأخبار عن كثب".
خروج هادئ ورحيل مزلزل
عصر يوم الاثنين تناول عبد الحميد طعام الغداء مع العائلة، لكنه لم يأكل كثيراً، وتتحدث والدته، "راح على غرفته ولبس ملابسه، سألته: وين رايح يما؟!.. حكالي: بس ربع ساعة بدي اشتري بوظة وأرجع، أجيبلك معي؟.. وحكالي: لما ارجع بدي احكي مع أستاذ الكيمياء عشان يعطيني درس بكرا". قال عبد الحميد ذلك دون أن ينظر في عيني والدته أبدا ثم غادر المنزل.
مضت ربع ساعة ولم يعد عبد الحميد، لكن الوالدة لم تقلق ولم تكترث كثيراً، لأنها تتوقع أن يكون قد التقى بأحد معارفه من مخيم عايدة وذهب معه. لكن "ربع الساعة" تضاعف كثيرا وأخذت الساعات تمضي دون أن يعود، ودون أن تتلقى العائلة أيضا أي معلومات عنه حتى صباح الثلاثاء، مادفع والده لتقديم بلاغ لدى الارتباط العسكري باختفائه.
ويقول والده محمد، "بعد ظهر يوم الثلاثاء هاتفني أحد ضباط المخابرات وطلب مني الحضور إلى مركز الشرطة في مستوطنة "عتصيون" لأخذ معلومات مني، لأن اختفاء ابني عبود تزامن مع عملية #باص12 في القدس".
توجه أبو عبدالحميد إلى مركز شرطة الاحتلال ومنه إلى قسم التحقيق في المسكوبية بالقدس، وهناك حقق معه ضباط المخابرات، ثم توجهوا به إلى مستشفى "تشعاري تصيدق" للتعرف على ابنه عبد الحميد. يقول، "دخلت الغرفة ووجدته مضخم الرأس ومقطع الأطراف، تعرفت عليه رغم اختلاف شكله، لأنه ببساطة ابني".
ويضيف أنه وفي طريق العودة من المستشفى استعرض له ضابط المخابرات صوراً لعبد الحميد وهو يتجول في شوارع مدينة القدس تم التقاطها عبر كاميرات المراقبة الموزعة في شوارع المدينة، وقد ظهر عبدالحميد في الصور مرتدياً معطفا وقبعة وحاملا حقيبة. يتابع، "بدا أنه يمشي بكل شموخ وعزة بالرغم من التعب الذي ظهر عليه".
ويتوقع والد الشهيد أن يكون ابنه وصل مدينة القدس عبر طريق النفق وفي الجبال مشياً على الأقدام، مقدرا أن تستغرق هذه الرحلة ثلاث ساعات، وهذا ما يبرر التعب الذي بدا واضحا عليه.
استعجل الشهادة
ويروي شاهد عيان يملك مطعما في المنطقة التي فجر فيها الشهيد عبد الحميد أبو سرور الحافلة، أنه رآه يركب الحافلة ويجلس في المقاعد الخلفية، وما هي إلا ثواني حتى سمع صوت تفجير وشاهد النيران تلتهم الحافلة وأخرى بجوارها إضافة لست سيارات كانت في المنطقة.
ويعلق أبوسرور، "برأيي أن ابني طار من قوة الضغط الذي تولد عن العبوة، وخرج مع سقف الباص إلى خلف الحافلة، لأنه لو بقي داخلها لأصبح رماداً من شدة النار التي بقيت مشتعلة لأكثر من نص ساعة، لعدم تمكن سيارات الإطفاء من الحضور بسبب الأزمة الخانقة التي حصلت".
وتقول أم عبدالحميد، "عندما حضر ضابط المخابرات إلى البيت قال مندهشاً: عبود ترك كل هاد العز والدلال وراح يموت!.. فأجبته: عبود آمن بقضيته، وما رضي يعيش بذل عشان هيك قام بهاد العمل المشرف، عبود ابني مش شرس ومش عدواني، لكنه كأي فلسطيني ما قدر يتحمل المشاهد الصعبة اللي كلنا كل يوم بنشوفها".
مساء الأربعاء أكدت سلطات الاحتلال استشهاد عبدالحميد أبوسرور، واستقبل والده الخبر بابتسامة بسيطة راضياً بقضاء الله وقدرته ومؤمناً بأن ما حصل هو إرادة ربانية خالصة، كما قال. أما والدته فقد أدى التضارب في الأنباء حول مصير ابنها إلى انهيارها، لكنها استعادت وعيها وقدرتها على الصبر والتحمل بشكل كبير بعد تلقي نبأ استشهاده، كما أكدت.
وقالت فيما بعد، "أنا كنت دائما احكي لأولادي: بعرف إنكم بتحبوا وطنكم وبدكم تضحوا عشانه، ورسالتي كأم إني أدرسكم وأوصلكم لبر الأمان وبعدها اختاروا طريقكم، لكن عبود كان مستعجل وما استنى، بالرغم من هيك أنا بحترم قراره جداً لإنه نفذه بناء على وعي وإيمان بالقضية".
وعن الخلية التي أعلن الاحتلال اعتقالها بعد تنفيذ العملية بيومين، تقول العائلة إن عبدالحميد لم يثق يوما بأحد، "فكيف له أن يثق بشباب لا تربطه بهم أي علاقة أو معرفة؟!"، معتبرة أن المعتقلين ليسوا سوى "كبش فداء" تريد دولة الاحتلال طمأنة شعبها وتهدئة خواطره بأنها اعتقلته.
تجدر الإشارة إلى أن سلطات الاحتلال مازالت تحتجز جثمان الشهيد عبدالحميد أبو سرور في ثلاجاتها، إضافة لاحتجاز 17 جثمانا آخر لشهداء من الضفة الغربية بما فيها القدس؛ ارتقوا خلال الانتفاضة الحالية.