القدس المحتلة – خاص قُدس الإخبارية: تمسك علبة عطره تشمها ثم تقبلها وتعيدها مكانها، تعيد ترتيب أغراضه بعناية مجددا كما تركها آخر مرة، تزيح سماعة هاتفه وتخبئها خلف أغراضه حتى لا يعبث بها أحد، لتسقط عينها على نظارته المكسورة، تضعها قرب قلبها، "هذه نظارة محمد، صحيح مكسورة ولكن لا أفرط بها أبدا" وتبكي مجددا، ومن يستطع إيقاف هذا السيل من الدموع؟.
طلب محمد زياد أبو خلف من والدته أن توقظه باكرا غدا، وقد أخبرها أنه سيذهب إلى مدينة القدس ليجدد رخصة القيادة الخاصة بها، لتستيقظ أم محمد في 19 شباط وتوقظ ابنها حسب الاتفاق، "طلب أن أحضر له ملابسه الجديدة ليشيك بها ثم ودعني كعادته وخرج".
تذكرت أم محمد وزوجها أن اليوم هو الجمعة، ودائرة السير الإسرائيلية تكون مغلقة فقررا الاتصال على محمد لتذكيره، "اتصلنا عليه وأخبرناه أن دائرة السير ستكون مغلقة اليوم، فأخبرنا أنه سيذهب ليصلي في المسجد الأقصى وسيتفقد أصدقائه ثم يعود للمنزل".
وما أن مرت نصف ساعة على هدوء قلب والديْ محمد، حتى جاء نبأ استشهاده معدما بخمسين رصاصة من قبل عدد من جنود الاحتلال في باب العامود وسط القدس، "قبل بيوم من استشهاد محمد كنت أشعر بضيق شديد، لم استطع الخروج من المنزل، وكنت خائفة على أولادي ولكني لم أتوقع أن أفقد أحد منهم".
بكرا عرسي
علمت أم محمد وزوجها بنبأ استشهاد نجلهما من موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، قبل أن يبدأ أفراد العائلة والأصدقاء بالاتصال عليهم، "رأيت فيما بعد الفيديو الذي يوثق إطلاق النار على محمد، هذا إعدام رسمي وتصفية لأبني الذي لم يعمل شيء"، تقول والدة محمد.
قبل يوم من استشهاده؛ عاد محمد مسرعا إلى المنزل ليغير ملابسه، فرفاقه ينتظرونه خارجا للذهاب إلى حفل زفاف أحد أصدقائهم، توضح أمه، "طلب أن يأخذ مركبة ووالده، فسأله إلى أين يريد الذهاب وأخبره أنه سيذهب إلى زفاف أحد أصدقائه.. ثم سأله ممازحا متى بدنا نفرح فيك، فأجاب محمد بكرا ان شاء الله". تعلق أم محمد، "أفكر بهذه الكلمة كثيرا هل كان يقصد بها فعلا غدا أم أنه كان يقصد في المستقبل".
محمد قبل 20 يوم من استشهاده احتفل بعيد ميلاده العشرين، لتخطفه رصاصات الاحتلال قبل أن ينهي مخططاته لهذا العام الجديد من حياته، "كان مرحا وضحوكا طوال الوقت، كان يحب الحياة والانبساط والخروج للتنزه والسفر .. كان يشتري الملابس الجديدة بشكل دائم، فكان يحب أن يواكب الموضة".
وتعود أم محمد بذاكرتها إلى يوم ولادة طفلها الأول، "الحياة لم تكن تسعنا من الفرحة، كان الطفل الأول لي، والحفيد الأول في العائلة كما أننا سميناه على اسم جده . فكانت فرحتنا كبيرة جدا" مضيفة، "كل لحظة أتذكر محمد وأستعيد ذكرياته بتفاصيلها وتبدا دموعي بالسقوط دون أن استطيع السيطرة عليها ثم أفتح فيديو إعدامه وأعيده مرارا وتكرارا وأتمنى أن أصحو من هذا الكابوس".
سباح ماهر
في كل أركان المنزل، تعلق العائلة ميداليات محمد الذهبية والفضية التي لطالما افتخرت بها أمام من يزور منزلها، فمحمد سباح ماهر اعتاد أن يشارك دائما في بطولات السباحة في بيت لحم وأريحا، ليعود دائما بميداليات جديدة يضيفها لمجموعته، "في الفترة الأخيرة التحق أيضا بنادي رياضي، وأصبح يكثف تدريبه .. كنا نعرف كم يحب السباحة، فكنت ووالده نشجعه دائما على تنمية هوايته والمشاركة في البطولات المختلفة".
مدربا للسباحة في المخيمات الصيفية أصبح محمد الذي كان يحلم أن يصير بطلا عالميا، وأحيانا قلص أحلامه ليصبح مدربا محليا، ثم اختار أن يبدأ ممارسة حلمه مع أشقائه وأن يورثهم هوايته. كيف لا وهو مثلهم الأعلى، فهو الأخ الأكبر في المنزل، "متعته بالحياة كانت السباحة، كان يحبها بشكل كبير، وكان يحب أن يتلقط الصور لنفسه وهو يمارس هوايته وينشرها على صفحته على الفيسبوك"، تروي أم محمد بألم.
الهاتف لم يعد يجب
محمد صاحب شخصية قوية وجريئة، وإلى جانب ذلك فقد كان يفيض حنانا على أشقائه ووالديه، رغم الساعات القليلة التي يقضيها في المنزل، فبعد أن أنهى المرحلة الإعدادية من دراسته اتخذ قراره بالحصول على رخصة لقيادة مركبات الشحن، وما أن حصل عليها حتى انتقل للعمل في هذا المجال، اقتداء بوالده.
ساعات طويلة كان يستغرقها عمل محمد، وما أن ينهي عمله حتى يعود مسرعا إلى المنزل ليأكل من طعام والدته دون اعتراض، "لم يكن يرفض نوع من الطعام، كان يحب كل ما أصنع وخاصة البيتزا، وفي كل يوم جمعة كان يطلب مني أن أعمل له الدجاج المحشي".
قلقة بشكل دائم كانت أم محمد على نجلها خوفا من حوادث السير، فلم تكن تتوقف على الاتصال للإطمئنان عليه، "كنت اتصل عليه أكثر من ثلاث مرات لأطمئن عليه وأسأله أين هو ومتى سيعود للمنزل، ثم أرضى عليه وأوكله لله".
كنتُ أدخِرُ لعرسه
محمد كان يساعد عائلته في مصاريف حياتها اليومية، فما أن يأخذ راتبه حتى يسلمه بالكامل لوالدته ثم يأخذ ما يكفيه من مصروف يومي، "لم نكن نتصرف براتبه وكنا ندخره لمستقبله، لنفرح به عريسا.... ولكن الحمد لله نحن فرحون به شهيدا اليوم".
وعن علاقته بأشقائه، تقول أم محمد، "كان يحب إخوته كثيرا ويهتم بهم بطريقة مبالغ بها، ولم يكن يمضي يوم دون أن يوصل شقيقته الصغرى إلى الروضة... استفقده كثيرا بكل تفاصيل حياتنا". وتضيف، "حلمت به مرتين فقط، كان سعيدا ويضحك وطلب مني أن أرضى عليه".
ندين (خمس سنوات) شقيقة محمد الصغرى، اعتادت أن يوصلها دائما إلى روضتها قبل توجهه للعمل، "محمد راح للجنة لأنه استشهد .. كان يوخدني للروضة كل يوم ويبوسني". لم يكن يمضي يوم على ندين دون أن تطلب الاتصال على شقيقها لتطلب منه أن يحضر لها الحلوى التي تحب وخاصة "الشوكو"، "بحب كثير واشتقتله بدي يرجع للبيت، ويجبلي أشياء زاكية".
سلطات الاحتلال ما زالت تحتجز جثمان محمد منذ استشهاده، تعلق أمه، "ألمنا الكبير أن جثمان محمد مازال محتجز ولم ندفنه حتى الآن، لا يوجد أي معلومات متى قد يسلمونا جثمانه لنكرمه كما يستحق .. لا يغيب ذكر محمد أبدا، وكلما أردت نداء ابني خالد، اناديه محمد .. بينما أشقائه يفتقدونه كثيرا وحزينون على فراقه".
ما زال حذاؤه قرب باب المنزل حيث اعتاد ان يجده، "لا استطيع نقله، محمد اعتاد عندما يدخل المنزل ان يجده هنا ويرتديه" تقوله وكأنها لم تفقد الأمل بعودته مجددا، كيف لا وهي ما تزال تنتظر استعادة جثمانه، وكأنه سيعود حيا!
صاحب صاحبه
منذ كانا في العاشرة من عمرهما، ومحمد ومصعب مسودة أصدقاء، "كان محمد زينة الشباب، منحاز للحق دائما، يحب أصدقاءه كثيرا كما يحب القدس ويتمسك بها.. لا يوجد كلمات تصف محمد وأخلاقه كان انسانا كاملا"، يقول مصعب محاولة تلخيص شخصية صديقه.
ويروي مصعب أن محمد لطالما حرص على إنشاء علاقات مع كل من حوله، "يجب الجميع ولا أذكر أنه كره شخص بيوم من الأيام، له أصدقاء كثيرين والكل يحبه. ويصف مصعب الشهيد بأنه "صاحب صاحبه"، فهو مخلص لأصدقائه ويحرص دائما على خدمته ومساعدتهم، "دائما كنا نذهب إلى يافا، كما أخذنا دروس تعلم السواقة معا .. كل حياتنا كانت مع بعض لانه كان مسلي وضحوك والخروج معه ممتع".
محمد عمل في مطعم بحي المصرارة وسط القدس، حتى بات معروفا للزائرين للمنطقة، "كان يري مسنة تحمل أكياس فيذهب بسرعة إليها ويساعدها ويحمل عنها... لم يكن يقصر مع أحد وكان معروف للجميع بنخوته".
قبل استشهاده بأيام، اتصل محمد على مصعب وطلب أن يجتمع به وبأصدقائهما فقد مضى وقت دون أن يلتقوا؛ ليرتقي محمد شهيدا دون أن يودع أصدقائه الذين لطالما وصفهم بأخوته، "أتندم لأني لم آراه ولم أجتمع به، فمؤلم كثيرا أن تفقد أخا وصديقا عزيزا على قلبك دون أن تودعه ... أستفقده جدا بكل تفاصيل حياتي وعندما يرن هاتفي أتخيل أن محمد من يتصل".