الملفات المتعلقة بالهجرة الجماعية الفلسطينية عام 1948 ما تزال غالبيتها مغلقة في الأرشيفات الإسرائيلية، على الرغم من أن صلاحية خصوصيتها انتهت منذ زمن، وفق القانون الإسرائيلي.
حتى الملفات التي كانت مفتوحة وخدمت “المؤرخين الجدد“، ليست متاحة بعد. في العقدين الأخيرين، وبعد الصدى الكبير الذي نتج من كتب أولئك المؤرخين، أغلقت الأرشيفات الإسرائيلية جزءاً كبيرًا من ملفاتها المنتشرة، خاصة الوثائق التي تدل على طرد الفلسطينيين خلال الحرب، أو على مجازر أو حالات اغتصاب من قبل جنود إسرائيليين، بالإضافة إلى الملفات المتعلقة بأيٍ من المواضيع التي تعتبر مربكة بنظر المؤسسة، والتي تم تصنيفها كـملفات “سرية للغاية”.
لهذا السبب، الوصول إلى ملف 1702818- “الهروب في 1948″، وفق العنوان الذي أعطي له، هو مفاجئ جدًا. هذا الملف، الذي كُتبت وثائقه بين سنوات 1960 – 1964، يصف محاولة مأسسة النسخة الإسرائيلية لـ “النكبة” الفلسطينية عام 1948، ومنحها عباءة أكاديمية. فبقيادة رئيس حكومة الاحتلال حينها دافيد بن غوريون، طٌلب من أفضل المستشرقين الذين عملوا في خدمة الدولة أن يبرهنوا -وبالإثباتات- أن الفلسطينيين هربوا عام 1948، ولم يُطردوا.
نشك إذا كان بن غوريون قد سمع كلمة “نكبة” في حياته، لكن رئيس الحكومة استطاع أن يدرك في سنوات الخمسين أهمية الرواية (الناريتيف)، وأيقن أنه كما نجحت الصهيونية بإنتاج رواية جديدة لـ"الشعب اليهودي" خلال بضع عقود، من غير المستبعد أن ينتج الشعب الآخر الذي سكن في "إسرائيل" - فلسطين قبل الصهيونية - رواية خاصة به.
هذا الشعب هو الشعب الفلسطيني طبعًا، وفي مقدمة روايته تقع النكبة، الكارثة التي حلت به مع إقامة دولة "إسرائيل" عام 48، حين تحول 700 ألف فلسطيني إلى لاجئ. قدّر بن غوريون حينها أن السؤال عن ما حدث عام 1948 سيقف بواجهة الصراع الدبلوماسي الإسرائيلي في العالم، بالأخص في صراعها مع الحركة الوطنية الفلسطينية.
اليوم؛ يتفق غالبية المؤرخين، الصهيونيين منهم واللاصهيونيين، وما بعد الصهيونيين أيضًا، أن 120 قرية على الأقل من أصل 530 تم تهجير سكانها الفلسطينيين على يد قوات الجيش اليهودي. وفي نصف ذلك العدد من القرى، هرب السكان من الهلع ولم يُسمح لهم بالعودة. فقط في بضع قرى معدودة هرب السكان تحت أوامر القادة أو المختار.
قبل انتهاء الحرب عام 48، طلبت “الهسبراه” الإسرائيلية إخفاء جميع الحالات التي طٌرد فيها فلسطينيون من قراهم.
ديـّان، الذي أمر بطرد البدو حين كان في منصب جنرال منطقة النقب بعد عام 1949, لم يكن بإمكانه أن يناقض أقوال رئيس الحكومة أن العرب “تركوا المكان بإرادتهم”.
ادعى بن غوريون أن على "إسرائيل" أن تشرح للعالم أن “كل الحقائق غير معروفة، فهنالك مواد جهزتها وزارة الخارجية من وثائق المؤسسات العربية، كتلك التابعة للمفتي الحسيني فيما يخص الهروب، وأن هذا الأمر حدث بإرادة العرب، لأنه قيل لهم أن البلد كلها ستُحتل وسيُسمح لهم بالعودة إلى بيوتهم، لا وبل سيملكون البيوت أيضًا”.
ادعى بن غوريون أن هنالك حاجة لعملية شرح وتفسير جدية، مكتوبة وشفهية. وعلى ضوء هذا الادعاء، وصل توجهه إلى مركز “شيلوح” عام 1961 ليجمع المواد عن “هروب العرب عام 48”.
مركز “شيلوح”، والذي كان هدفه “بحث مشاكل واقعية على المستوى العلمي”. عمل على إنتاج تفسيرات لأحداث عالمية من وجهة نظر إسرائيلية. أقيم المركز بشراكة بين الجامعة العبرية ووزارة الخارجية، بالإضافة إلى وزارة الأمن والمجتمع المدني الإسرائيلي.
بنظر بن غوريون، عمل المركز على الأبحاث التي كان يطمح بإنتاجها، لذلك توجه إليه بطلب تجميع موادٍ عن ما أسماها “هروب العرب”، فطُلب من روني جباي أن يكتب البحث. لو عرف بن غوريون عن وظيفة الدكتوراه التي كتبها روني لما طلب منه أن يجري بحث سيخدم “الهسبراه” الإسرائيلية. نفهم من كتاب جباي أنه يثبت ادعاء الفلسطينيين.
حين استُقبل طلب بن غوريون الغريب في مركز “شيلوح”، تم السماح بالنظر في ملفات كانت مغلقة أمام الجمهور. تم السماح للباحثين في المركز أن ينظروا في ملفات جُمعت في وحدة الاستخبارات. والأهم من ذلك، في المواد التي جمعها الشاباك عن الموضوع. لم يكن بن غوريون راضٍ عن البحث الذي أجراه جباي، وطلب بإجراء بحث جديد.
طُلب من موشيه معوز أن يجري البحث. لكن بحثه أيضًا أشار إلى حالات طرد، بالأخص في اللد والرملة. لكن معوز في النهاية، كتب البحث الذي أراد بن غوريون أن ينتجه، والذي يشير إلى أن المنظمات اليهودية حاولت منع هروب العرب.
معظم المؤرخين يذكرون ويعرضون إثباتات تفيد أن بن غوريون عرف في لحظتها عن حالات طرد للفلسطينيين، بل وسمح بذلك. معظمهم في أنحاء العالم وفي "إسرائيل"، لا يناقشون بعد أن جنود جيش الدفاع الإسرائيلي طردوا العديد من الفلسطينيين خلال حرب 1948، ولم يسمحوا لهم بالعودة إلى بيوتهم.
لكن النقاش الدائر عن السؤال “هل كانت الخطة التي صادق عليها بن غوريون مبنية؟” ما يزال مستمرًا. نشك في أن جباي وباقي الباحثين قد كذبوا، المحتمل أنهم أرادوا أن يخدعوا أنفسهم من أجل تصوير صورة أكثر وردية لعام 48، عام هام غيّر تاريخ "الشعب اليهودي" من ناحية، وتاريخ "المتوسط العربي" من ناحية أخرى.
*هذا المقال مترجم بتصرف عن موقع "هارتس" العبري ونشر سابقا على موقع "العساس".