بيت لحم – خاص قُدس الإخبارية: بعد يومين فقط من ترتيب مالك لغرفة نومه، وتعليق صور لشهداء انتفاضة القدس على جدرانها، عُلقت صورته إلى جانبهم في طرقات وأزقة مخيم الدهيشة، وحُمِلت بأيدي الأطفال خلال تشييعه، وعُلقت حتى على جدران غرفته ذاتها.
فجر الثلاثاء 8/كانون أول/2015 ارتقى الشقيق الوحيد لخمس فتيات إثر اقتحام قوات الاحتلال لمخيم الدهيشة جنوبي بيت لحم، ليكون الشهيد رقم 100 في الانتفاضة المتواصلة منذ ستة أشهر تقريبا.
قبل استشهاده بيوم واحد، عاد مالك من عمله في فندق ببيت لحم وأصر على إعداد العشاء لأهله بنفسه، رافضا اقتراح شقيقاته مساعدته، لتكون هذه هي الوجبة الأخيرة حاملة طعم خاصا كما تقول شقيقته الكبرى أسماء، مبينة أن مالك بعد العشاء استحم وخرج متجولا مع أصدقائه في أزقة المخيم كما اعتاد أن يفعل دائما.
تجول مالك في مخيمه كأنما يودع المكان الذي ولد فيه وعاش بين أهله (19 عاماً)، يقول منذر مناصرة الذي رافق الشهيد مالك في ليلته الأخيرة إنه كان قليل الكلام، يبادل من يلقاهم بالابتسامات فقط، "كأنه يقول لهم احفظوا هذه الابتسامة جيدا، لأنكم لن تروها إلا بعد حين وفي مكان آخر".
بعد منتصف الليل، اشتد الظلام وزادت عتمته باقتحام قوات الاحتلال لمخيم الدهيشة بهدف اعتقال عدد من أبنائه وتسليم بلاغات لمراجعة المخابرات لآخرين كما اعتادت أن تفعل دوما، وكما يحدث دوما اندلعت المواجهات فلم يعد مالك إلى البيت.
يفيد سكان المخيم بأن قوات الاحتلال ضمت أكثر من 500 جندي انتشروا في جميع حواري المخيم وشوارعه وأزقته، وشرعوا بتفتيش البيوت ثم اعتقلوا خمسة شبان ووزعوا بلاغات على 13 شابا آخرين، لكن أبناء المخيم أبوا أن يخرج جنود الاحتلال منه دون خسائر، فيؤكد شهود العيان أن مواجهات تلك الليلة شهدت عدة إصابات بين الجنود نتيجة الحجارة.
يقول مناصرة، "ما بين الأذان الأول والثاني لصلاة الفجر، حاصر شبان المخيم وحدة من الجيش كانت متمركزة في إحدى شوارعه، ورجموها بوابل من الحجارة تساقطت عليهم كالمطر من حيث لا يدرون.. كنت مع مالك وصديق آخر على بعد عدة أمتار فقط من الجنود المحاصرين بالقرب من مؤسسة إبداع في وسط المخيم. ولكنه لم يتراجع للوراء، وكأنه ينتظر الرصاصة التي ستخترق جسده وترتقي به شهيدا".
عندما رأى جنود الاحتلال الحجارة تتساقط عليهم بكثافة، أطلقوا الرصاص الحي بكثافة وفي جميع الجهات، ومع صوت المؤذن مردداً "الله أكبر" للأذان الثاني لصلاة الفجر، اخترقت إحدى الرصاصات جمجمة مالك وقسمتها إلى 300 جزء حسب صور الأشعة التي أجريت له وأكدها مصدر طبي من داخل مستشفى بيت جالا.
سقط جسد مالك أرضا تماماً بنفس الوضعية التي سقط بها الطفل الأسير أحمد المناصرة ملقى على الأرض، أما روحه فالتحقت بكوكبة الشهداء الـ 99 الذين سبقوه إلى الله.
تقول والدة الشهيد مالك إنها في تلك الليلة لم تنم وبقيت ترتب البيت لشعورها بأن مصاباً جللاً سيحدث. أما والد الشهيد فيقول إنه توجه إلى المسجد لأداء صلاة الفجر جماعة، وهناك تناهى إلى سمعه من بعض المصلين أن المصاب شاب آخر يدعى أكرم، لكنه عاد للمنزل ليجد زوجته قد ارتدت ملابسها على عجل، همت بالخروج بعد أن علمت من وسائل الإعلام بأن ابنها مالك هو المصاب.
استيقظ المخيم صباح ذلك اليوم على نبأ استشهاد مالك، واستيقظت فلسطين على دمه الأحمر القاني الذي غطى مساحة واسعة من الشارع حيث ظل ينزف فيه لفترة طويلة، بعد منع قوت الاحتلال الإسعاف الفلسطيني من نقله للمستشفى، أو تقديم العلاج له على الأقل.
رحل مالك الذي أنهى الثانوية العامة العام الماضي، ولكنه فضل الشهادة على العلم، على الرغم من محاولات أمه العديدة لثنيه عن النزول إلى ساحات المواجهة لخوفها الشديد على ابنها الذي كانت تتمنى أن يبقى سنداً لوالديه وشقيقاته مستقبلا، لولا رصاصات الغدر.
شُيّع جثمان مالك في مخيمه لينثر مسكه داخل حواريه، وتبقى رائحته محفورة في كل حجر من حجارة المنازل. وأقيمت صلاة الجنازة عليه داخل مدارس المخيم، قبل أن يوارى الثرى في مقبرة الشهداء إلى جوار من سبقوه من شهداء بيت لحم.
وشهدت مدينة بيت لحم مواجهات عنيفة عند مدخلها الشمالي بعد تشييعه، وكأن شبانها يقولون للاحتلال، "خذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا".. فيما بقي يوم الثلاثاء من أشد الأيام بؤساً على مدينة بيت لحم التي ودعت فيه الشهداء عبد الرحمن عبيد الله، ومعتز زواهرة، ومأمون الخطيب ومالك شاهين، خلال الانتفاضة الحالية.