رام الله – خاص قُدس الإخبارية: قرأَتِ العاجلَ على شاشة التلفاز، قلَّبت الفضائيات عسى أن تجد من يكذب نبأ استشهاد نجلها؛ دارت حول نفسها لتجد الأرض تضيق عليها وتحشرها في الزاوية، تتلقى اتصالا آخرا من نجلها الأكبر يسألها ما لون القميص الذي ارتداه أحمد متوجها إلى جامعته؟! حتى تلك اللحظة كان عقلها يرفض استيعاب فقدان أحد أبنائها.
اليوم تمر سهيلة حامد من أمام مقبرة الشهداء المحاذية لمنزلها، تتنفس الصعداء، تحيِّي من فيها وتهديهم ثواب الفاتحة، ثم تقف لتتأمل صورة نجلها المعلقة وهي تحمد الله أنها لا تزوره داخل هذه المقبرة.
ففي السابع من تشرين أول الماضي، توجهت مسيرة طلابية من جامعة بيرزيت إلى معسكر بيت إيل المقام شمال مدينة البيرة، حيث المواجهات العنيفة التي كانت تشهدها المنطقة منذ اندلاع الانتفاضة، محاكاة للمواجهات التي كانت تشهدها في الانتفاضتين السابقتين.
المئات يلقون الحجارة والزجاجات الحارقة، فيما يرد جنود الاحتلال بالرصاص الحي والقنابل الغازية والصوتية، وتستمر المواجهات بين كر وفر.
يسود الهدوء فجأة ويتقدم الشبان.. عدد من الملثمين يتقدمون وهم يجرون حاوية نفايات أمام الشبان لتكون ساتر لهم من رصاص جنود الاحتلال؛ وفجأة يشهرون أسلحتهم منقضين على ثلاثة شبان من بينهم أحمد وليد حامد (22 عاما) من بلدة سلواد شرق رام الله؛ لتوثق كاميرات الصحفيين ضربهم لهم وإطلاق النار عليهم من مسافة الصفر.
متمسكا بحجره بقي أحمد حامد طالب الهندسة الكهربائية في جامعة بيرزيت، محاولا الإفلات من أيدي من أدرك بعد وقت أنهم مستعربون، حاول لكمهم، ركلهم؛ ليقابلوه بلكمات مضاعفة، ثم رصاصة من نقطة الصفر في أحد قدميه، قبل أن يتدخل جنود الاحتلال ويجروه إلى الدورية العسكرية وينقلوه لجهة مجهولة.
"هجموا علينا فجأة من خلفنا، اكتشفت بعدين إنهم مستعربين... قاومت قدر ما استطعت إلا أنني بتُ في قبضتهم" يقول أحمد، مضيفا أنه علم بأنهم مستعربون عندما سمعهم يتكلمون العبرية فحاول الإفلات منهم لكنه لم يستطع.
ورغم كل ما تعرض له أحمد في تلك اللحظات، إلا أنه رفض التخلي عن الحجر الذي كان يمسكه ليلقيه على جنود الاحتلال، "لا أعلم بماذا كنت أفكر في تلك اللحظات، وربما لم أكن أفكر بشيء، فكل ما كنت أسعى إله هو الإفلات من بين أيديهم"، ويضيف ضاحكا، "تمسكت بالحجر عسى أن تتاح لي الفرصة وألقيه عليهم".
ويوضح أنه وبعد فشل المستعربين في السيطرة عليه، جاء أحدهم ووضع سلاحه على قدمه وأطلق النار، ويتابع، "بعد قدوم جيش الاحتلال، أجرى لنا الجنود إسعافا شكليا أمام كاميرات الصحفيين، ثم نقلنا بالجيبات العسكرية، وأرسلوني إلى مستشفى شعاري تصيدق الإسرائلي في القدس".
يوم واحد فقط قضاه أحمد حامد في المستشفى الإسرائيلي، حيث تم تقطيب جرحه فقط، فمن حسن حظه أن الرصاصة خرجت دون أن تمس عضله وعظمه، إلا أنه بحاجة لرعاية طبية يومية وخاصة أنه سيبقى فترة لا يستطيع المشي عليها.
ويروي أحمد، أنه بعد أقل من يوم نقل من المستشفى إلى مركز تحقيق "بنيامين" حيث أخضع للتحقيق، ثم نقل في اليوم التالي إلى سجن عوفر، مشيرا إلى أنه ورغم إصابته كان ينقل بالجيبات العسكرية وتحت حراسة مشددة.
"كانت الإصابة تؤلمني، ولم يكن سهل علي التحرك بسهولة داخل أقسام السجن.. كذلك عندما كنت أنقل إلى المحاكم كنت أعاني كثيرا وخاصة عند صعود الدرج"، يقول أحمد الذي اضطر لاستخدام العكازات لفترة طويلة لتساعده قبل أن يتعافى.
ويضيف أحمد أنه كان بحاجة لرعاية واهتمام صحي يومي، إلا أن إدارة سجن الاحتلال لم تكن توفر له الرعاية اللازمة، وكانت تكتفي بممرض إسرائيلي يقوم بمعاينته والكشف عليه.
أحمد كان يسعى لإنهاء دراسته بوقت أقصر من المقرر، إلا أنه وبسبب اعتقاله فاته الفصل الدراسي، فيقول، "قد أتاخر فصل واحد عن دفعتي، لكن لإني كنت متقدم عليهم في الفصول الماضية، فلدي أمل أن أتخرج معهم".
وحكمت محاكم الاحتلال على أحمد بالسجن لخمسة أشهر ونصف ودفع غرامة مالية بقيمة ثلاثة آلاف شيقل، ليتحرر في السابع من آذار، حيث توجه أولا إلى مقبرة الشهداء وقرأ على أرواحهم الفاتحة قبل أن يتوجه لمنزله لرؤية أسرته.
مرارا وتكرارا، يعيد أحمد اليوم التفرج على الفيديوهات التي وثقت عملية اعتقاله من قبل المستعربين، وصوره والدماء تغطي وجهه والحجر ما زال في قدمه، "أنصح المتظاهرين ألا يثقوا بأي شخص خلال المواجهات، وأن يكونوا على معرفة في المكان وفي من حولهم وأن يكونوا حذرين ومتنبهين لكل شيء حولهم".