لو قيض جمع الوصايا التي تنتشر هذه الأيام للشهداء؛ الشبان والأطفال، الفلسطينيين، ووضعها في متحف، أو أن تصور في كتاب، فإنّها ستثير الحيرة، ويجب أن تثير الغضب أيضاً.
لا يوجد جهة تقوم على الجمع والتوثق مما ينشر في مواقع إلكترونية، بعضها إخباري له درجة من المصداقية، فضلا عن صفحات التواصل الاجتماعي، من رسائل تركت، أو هكذا يعتقد، من شهداء الانتفاضة الفلسطينية الحالية.
بعد أيام، تأتي ذكرى عملية الشهيد كمال عدوان، العام 1978، التي أشرف عليها الشهيد خليل الوزير، واشتهرت باسم "عملية دلال المغربي".
لطالما رددنا في أروقة الجامعات، وبين المجموعات الشبابية، جملة نعتقد أو قيل لنا، أو قرأنا، أنّ الشهيد أبو يوسف النجار الذي اغتاله كوماندوز إسرائيلي العام 1973، في فردان ببيروت، قالها، وهي: "القيادات زائلة والشعوب باقية"، وقد تحولت الجملة إلى أشبه بالوصية.
وأسمح لنفسي أنّ أروي ما سمعته من عائلة الشهيد كمال عدوان، الذي اغتيل في العملية ذاتها، ولعله كان هدف العملية الأول، مع النجار وكمال ناصر، وقد كان مسؤول ما كان يسمى بالجهاز أو القطاع الغربي، المسؤول عن الأرض المحتلة والعمليات داخلها، وعن عملية التثوير هناك، فضلا عن مسؤوليته في قيادة الإعلام الفلسطيني الموحد؛ بأنّ عدوان كان دائم التوصية بحقائب لتسلم لمن يأتي بعده إن استشهد، اتضح أنّ فيها وثائق ومعلومات سرية وأمانات لأبناء الشهداء.
أمّا دلال التي استشهدت في عملية الرد على اغتيال عدوان، بإشراف قائد "الغربي" خليل الوزير، ولم تكن قد وصلت العشرين من عمرها بعد، أي في عمر قريب من أغلب شهداء الانتفاضة الراهنة، فإنّ ما ينشر باعتباره وصيتها، يعكس بوضوح فكر حركة "فتح" التي انتمت إليها، وتحديداً تيار السرية الطلابية (كتيبة الجرمق) التي بدأت بالفكر الماوي (نسبة إلى الرئيس الصيني الثائر ماو تسي تونغ)، وتقسيمه التناقضات السياسية إلى ثانوي ورئيسي، وهو التيار الذي تحول أبرز قادته للفكر الإسلامي لاحقاً. فهي تقول: "وصيتي لكم جميعا أيها الإخوة حملة البنادق تبدأ بتجميد التناقضات الثانوية وتصعيد التناقض الرئيسي ضد العدو الصهيوني، واستقلالية القرار الفلسطيني (...). أحبائي لا يهم المقاتل حين يضحي أن يرى لحظة الانتصار، وأراها بعيني رفيقي فاستمروا...".
كانت وصيتا النجار وعدوان وصيتي قادة يتوقعون الاستشهاد، ووصية دلال، وصية شابة نالت تدريبا سياسياً، وفكرياً، وعسكرياً، وترى صورة شاملة للثورة والنضال. وبالمثل فإنّ رسالة وجهها خليل الوزير لقيادة الانتفاضة العام 1988، تحولت لما يشبه الوصية، بعنوان "لنستمر في الهجوم"، فيها تحليل للصراع بمستوياته المختلفة؛ رسائل من فرد قائد في مجموعة إلى جماهير ثائرة.
في وصايا شهداء الانتفاضة الحالية، المتداولة، تركيز على الباعث الديني للاستشهاد، ووصايا للأم، وأحياناً قضايا فردية مثل التوصية بتسديد ديون بمبالغ بسيطة جدا، تركها الأطفال الشهداء خلفهم، وربما التوصية أين يكون الدفن بجانب أي شهيد أو قريب، أحبه.
وصايا كتبت على عجل على ورق متواضع مقتطع من دفتر مدرسة أو حتى ورق يحمل شعار شركة ما.
شهداء حملوا النبض عينه، وعاشوا الدفق ذاته، وعانوا الهم نفسه، الذي كان في روح وعقل عدوان، وناصر، والنجار، ودلال.
الأوائل استشهدوا في زمن كان فيه الغناء "وحملت رشاشي لتحمل من بعدي الأجيال منجل"، كانوا جزءا من ثورة، يضطر "الموساد" للذهاب لبيروت وتونس لاغتيالهم، بعد أن يكونوا قد دونوا نهجاً لمن بعدهم، أو ثورة ترسل دلال ومن معها عبر البحر في تحد إعجازي العام 1978، أو ترسل ثلاثة شبان لمفاعل ديمونا العام 1988، بعد أشهر وسنوات من الإعداد والتفكير.
الآن هناك شهداء ذهبوا على عجل، لَبوا نداء الشهداء الأوائل، ورفضوا الخنوع. ولكنهم تُركوا وحيدين، لم يتخرجوا من "مدرسة كوادر"، أو حتى "معسكرات أشبال وزهرات"، ولم تصقل لغتهم بعد. وسوى الإيمان بعدالة قضيتهم، لا يعرفون كيف ستكون المسيرة بعدهم. عبّروا عن براءة وحيرة أكثر مما عبروا عن ثورة.
شهداء تُركوا وحيدين، ليقرروا الانتفاض، وعدم الانتظار، لحقوا بشهداء، ولم يجدوا قائداً يضع لهم الدستور الثوري.
شهداء تُركوا وحدهم دون من يدقق هل هي وصيتهم حقا التي تنشر، ودون قيادة تقرر مسار البوصلة الثورية، وتهديها إليهم.