مأخوذة بحالةٍ من الدهشة، ومشدودة بشكل خاطف، حتى بعد إطلاق صافرة النهاية للمباراة "بيننا"، وكأنما تعمقت أسئلتي التي تراودني منذ فترة ليست بالقريبة، عن الدافع الغريب لحب الجزائريين لفلسطين وأهلها، حتى في لحظات المنافسة؟!
وإنّي وإن كنت لست متابعة لكرة القدم عن كثب، إلا أن ما شدني هذه المرة ليس أسلوب اللعب ولا مهارات اللاعبين، بل لقد سرق الجمهور الأضواء بالكامل، صنع حالة كاملة تقف أمامها كل التعبيرات عاجزة، كأن يرفع مشجعون جزائريون لافتة مكتوب عليها "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة".
القضية اليوم مباراة كرة قدم، وليست ساحة نصرة في معركة حرب محسومة لطرف، وإن كانت مباراة كرم القدم في جميع الأحوال معركة صغيرة وفق قوانين اللعب، إلا أن الجزائريين اختاروا النصرة لفلسطين هذه المرة كما دومًا، حتى في المعارك الصغرى وإن كانت على حسابهم، أو على طرفهم بالفعل.
هتافات الجمهور الجزائري للفلسطينيين على أرضهم، ومقابل منتخبهم الوطني يضعنا أمام مفارقة حقيقية، فالأصل في هذه الحالة أن "منتخب فلسطين" خصم رياضي لمنتخبهم وعليه فان الوطنية الحقة في وضعها الطبيعي تدفع الفرد للتحيز لابن بلاده ومن يمثل منتخبه الوطني، فما الذي حصل؟ وكيف تجاوز الجزائريون وطنيتهم هذه المرة أيضًا؟!
لقد تغنى الجزائريون بالخصم، ورفعوا التحية مزدوجة كما ترافق العلمان أيضًا، وكلما غنوا للجزائر هتفوا لفلسطين، لقد تجاوز الجزائريون وطنيتهم بالفعل، ليس انتقاصًا منها، إنما نفيًا لفكرة الخصم كليًا، مثبتين بالفعل أنه ليس صعبًا أن تمتلك "وطنين"، وطنان فعلًا ليس الآخر أقل حبًا من الأول.
حادثتني صديقة جزائرية خلال المباراة، كيف بكت حال سماعها النشيد الوطني الفلسطيني، كيف سرقتها كلمات النشيد "فدائي فدائي" من حالتها وجنسيتها وكل ما تعرفت عليه سابقًا، قائلة " لقد أصبحت فعلًا فلسطينية في وجداني، بشكلٍ صادق لم أشهده في حياتي، لا شيء أصدق من ذلك!"
في الدقيقة الـ 62 من عمر المباراة، تعالت الأصوات والهتافات والصراخ، لم يكن ذلك تأنيبًا أو حسرة من الجمهور الذي غضب لأجل منتخبه، لقد تبدلت القاعدة وفرح الجمهور بهدف الخصم، حتى إن التجرد من الذاتية والتعصب للوطنية التي نفاها الجزائريون عن بلدهم وحدها وعمموها لتشمل فلسطين، دفع صديقتي الجزائرية خديجة أن تصرخ بالفعل "واااو لقد سجلنا هدفًا على الجزائر"، أعتقد أنه لا داعي للتذكير أن صديقتي جزائرية!
لقد عمقت كلمات صديقتي شعوري بالدهشة الذي سبق وذكرته في بداية حديثي، وتساءلت ماذا لو تبدلت الأدوار بالفعل، هل سنكون أطيب منهم، هل كنا لنتمنى أن يغلبنا الجزائريون على أرضنا، وأظنني وجدت بعض إجابة يحملها طفل فلسطيني في غزة، حين حمل العلم الجزائري يجوب فيه شوارع المدينة ويصرخ "عاش الجزائر"، بينما لم تكن الإجابة الأولى التي وصلت لدماغي لقد سبق ورفع شباب الضفة المحتلة علم الجزائر خلال مواجهاتهم مع الاحتلال.
ما أثار استغراب المحللين الرياضيين في دقيقة التسجيل هو موافقته لسنة استقلال الجزائر، كما أن الملعب الذي أقيمت عليه المباراة هو ما يوافق تاريخ الاستقلال كذلك "ملعب 5 جويلية"، لقد لعب القدر لعبته فيها أيضًا، وربط الزمن بالتاريخ بشكل غريب وفق تصورهم.
في لحظة صراحة أقولها، منذ الصغر، لم يكن للمغرب العربي ظهور طاغٍ على الساح العربية، حتى أننا لم نكن نعلم بدعمهم لنا من عدمه، لقد كنا مغيبين عنهم لبعدهم الجغرافي أو ربما لانشغالنا بحروبنا ونكباتنا، لكن بلدًا في المغرب العربي أبى إلا أن يزحف شرقًا باتجاه قلوبنا.
ففي السنوات الأخيرة الماضية، شهدت فلسطين محاولات تعبئة حثيثة لا سيما من العربان أنفسهم، محاولات لتغيير قيمة فلسطين في نفوس داعميها والمؤمنين بقضيتها حول العالم، بتصوير شعبها بالشعب المتخلي والمنقسم والضائع وصلت للقول "إنه يستحق ما جرى به" أو أنه من رمى بنفسه في كل مصائبه وعليه أن يكون وحده ليخرج منها
لقد طغت التفرقة وحلّت ظاهرة البيع، بات الأبرز أن يتخلى الجميع عن فلسطين وأن نصرتها ليس واجبًا عربيًا ولا إنسانيًا، لقد حاولوا إيصال الرسالة لهم ألا يهتموا، وحينها فقط قالت الجزائر كلمتها فكانت أعمق وأقوى، لقد أثبت الجزائر تصديه لمحاولات التعبئة ضد فلسطين، أثبت بالفعل إفشالها.
تمنياتٌ كثيرة حملها الطرفان تجلّت في الإيثار، الإيثار الذي يعمقه الحُب، الرياضة تجمع لا تفرق هذه قاعدة رياضية استثنائية لكنها حقيقية، وأظن أن الحقيقة الأكثر وضوحًا بالفعل أن الحب أكبر من الرياضة ومن الجغرافيا، الكثير الكثير من الحب يا جزائر! يقولها الفلسطينيون بصدق.