جنين- خاص قُدس الاخبارية: لم يكن يوم الأربعاء (3/شباط) كأي يوم عادي، إنه اليوم المنتظر الذي سينفذ فيه ثلاثة شبان وعدهم الصادق، بالثأر لوطنهم وصديقهم الذين كان وحده يعلم سرهم، ففي مقبرة بلدة قباطية جنوب جنين خطط الفدائيون الثلاثة لطريقهم المنشود.
40 يوما مرت على موارة جثمان صديقهم أحمد عوض أبو الرب الثرى، أحمد الذي عاهد أصدقاءه يوما بأن لا يفرّقه عنهم إلا الموت، أوفى بوعده فعلا فلم يبعده عنهم سوى الموت لكن دون أن يودع أحبته، تاركا خلفه قلوبا تنزف ألما، فرصاصات الاحتلال اغتالت جسد ذلك الطفل الثائر، الذي قرر أن لا يبقى مكتوف الأيدي أمام مشاهد القتل والتنكيل.
الأصدقاء الثلاثة
سنوات هي عمر تلك الصداقة التي نشأت بين محمد كميل (19 عاما) وأحمد عوض أبو الرب (17 عاما)، إذ يقع منزلا العائليتن بجوار بعضهما، يخرجان معا إلى المقهى والمدرسة، يمضيان معظم أوقاتهما مع بقية أصدقائهما، يشاركان بعضهما أسرارهما، أفراحهما، وأحزانهما.
أحمد زكارنة (19 عاما) صديق جديد انضم إلى المجموعة قبل عامين، وكان ذلك عقب قرار اسماعيل شقيق أحمد الأكبر الارتباط بشقيقة محمد كميل، فكانت مجموعة الأصدقاء تلك مميزة جدا في البلدة بعلاقتهم القوية، يقفون مع بعضهم على الحلوة والمرّه.
أحمد زكارنة أخ لشقيقين أنجبته أمه بعد ثماني بنات، وهو الشاب الخلوق، المرح، الأخ الحنون العاطفي، الصديق الذي ما إن تطلبه بخدمة حتى يسرع مجيبا، درس حتى الصف التاسع ورغم ذكائه إلا أنه قرر أن يخرج من المدرسة ويلتحق بسوق العمل.
عمل أحمد في مجال تمديد الكهرباء، ورغم محاولة والده وشقيقه اسماعيل ثنيه عن قراره واقناعه الالتحاق بالمدرسة مجددا، إلا أنه أصر أن يعمل، مؤخرا كانت العائلة تحاول اقناعه بالزواج، فكان رده الوحيد، "أنا أنوي الزواج، إن شاء الله قريبا".
محمد كميل، الشاب المرح، الخلوق، قوي البنية، كابتن فريق كرة القدم في بلدة قباطية، عاطفي يمتاز بأنه يملك قلبا أبيضا، كتوم، يحب فعل الخير، اجتماعي، يحب أصدقاءه.
أنجب أحمد كميل أربعة أولاد وبنتين، محمد هو الثالث في العائلة، أنهى دراسة الثانوية العامة وقرر أن يبدأ العمل في بلدية قباطية في قسم المياه، كان يطمح بأن يبني بيتا له، ثم يتزوج ويكوّن أسرة.
أما أحمد ناجح أبو الرب (20 عاما) فقد تميّز بطبعه الهادئ والخجول والجريء في ذات الوقت، وهو كذلك الابن الحنون، المحبوب بين أفراد عائلته وأصدقائه.
وهو أيضا الابن الأكبر في العائلة، له شقيق واحد وست شقيقات، قرر أن يترك الدراسة ويعمل مع عمه في الزراعة، ليساعد والده في إعالة العائلة.
صديقنا شهيد!
في الثاني من تشرين ثاني/2015، وقع خبر استشهاد الطفل أحمد عوض عند حاجز الجلمة كالصاعقة على كل أبناء بلدة قباطية، فقد كان الشهيد محبوبا من قبل الجميع، تأثر الجميع برحيله لا سيما أن والده توفي وهو صغير، وكانت أمه تعتبره رجل البيت، وسندا لشقيقتيه وشقيقه الأصغر.
أصدقاء أحمد بكوه كثيرا، وفي كل يوم يلتقون فيه يستذكرون أحمد ويتحدثون عن ذكرياتهم معه، خرجوا مرارا في وقفات نظمها أهالي البلدة من أجل المطالبة باسترداد جثمانه المحتجز.
وفي الثالث والعشرين من كانون الأول سلّمت سلطات الاحتلال جثمان الشهيد أحمد عوض، حينها فقط صدقت عائلة الشهيد وأصدقاؤه وأبناء بلدته أن أحمد غادر الحياة بالفعل.
الشهداء يلتقون في جنازة الصديق
في جنازة أحمد خرج جميع أصدقائه يتسابقون لحمل نعشه، في ذلك اليوم جمع الألم والوجع برحيل الصديق كلا من محمد كميل وأحمد زكارنة بأحمد ناجح أبو الرب، لتنشأ بينهم علاقة جديدة من نوع خاص جدا.
لم يكن أحمد ناجح صديقا مقربا من أحمد عوض، لكنه أحبه وكان في بعض الأحيان يخرج معه، بكاه كثيرا عقب استشهاده، تحدث عنه أمام عائلته التي لم تكن تعلم أن علاقة صداقة جمعته به.
الشهيد أحمد بقي حاضرا بين أصدقائه الذين انتظموا على زيارة قبره، ففي صبيحة يوم الجمعة من كل أسبوع كان يتلقي أحمد زكارنة ومحمد كميل وأحمد ناجح عند قبر صديقهم.
عقب استشهاد أحمد عوض، أصبح أحمد زكارنه أقرب إلى عائلته، وما عاد يجادل والده وشقيقه عند طلبهم القيام بأمر ما، لم تلحظ العائلة أي شيء على أحمد يدل على أنه سيقدم على الانتقام لصاحبه.
يقول اسماعيل شقيق أحمد لـ قُدس الإخبارية، "في آخر فترة كان أحمد ملاكا يمشي على الأرض، وبقي على اتصال دائم مع محمد شقيق الشهيد أحمد عوض، وكان يلتقي معه ويسأله إذا ما كانوا يحتاجون لشيء ما".
كذلك محمد كميل، لم تلحظ العائلة عليه أي شيء، ولم يكن يردد أيا من المصطلحات التي تشير إلى أنه سيقدم على فعل ما.
أما أحمد ناجح فأصبح أكثر هدوءا، شارد الذهن، كثير التفكير، تأثر جدا بالمشاهد التي يراها على التلفاز منذ بدء الانتفاضة، وأخبر والده بأنه في شهر شباط سيترك العمل عند عمه.
قبل بضعة أيام من اليوم الموعود، قال أحمد لشقيقه محمد "انت بصف محمد شقيق أحمد عوض، أريد منك أن تكون صديقا له، تبقى معه وتزوره"، لم يجب محمد وبقي ينظر صوب شقيقه ويفكر، في اليوم التالي لحق به وقال له، "إذا انت استشهدت كيف بدك تعرف أني صرت صاحب محمد؟!".
يوم الأحد جلس أحمد مع أمه صباحا وقال، "هل تعلمين يا أمي أن أحمد عوض قبل استشهاده صباحا التقطت له أمه بضعة صور، وعندما خرج من المنزل لحقته أمه لتعطيه مصروفه نادت عليه ولم يجب، هناك من أخبرني أنه كان يمسح دموعه"، ما إن أنهى جملته حتى بدأ بالبكاء هو ووالدته.
حجة الغياب والوداع الأخير
في الثاني من شباط الحالي، خرج أحمد زكارنة ومحمد إلى الحلاّق وطلبا منه أن يحرص بأن يكونا بأبهى طلة، فأحمد قال له "زبطني بكرة عندي مقابلة"، أما محمد فقال، "بكرة بدي أنزل على جنين أطش".
التقى أحمد بأصدقائه وأراد أن يودعهم بطريقته الخاصة دون أن يشعر أي منهم بشيء، فالتقط معهم "صور سيلفي" وهو ما يفعله دائما عندما يتلقي بهم، وعندما وصل إلى أحد أصدقائه وجده نائما فقال له، "انهض هيا أريد أن التقط صورة لنا" رد عليه صديقه، "مرهق أريد أن أنام"، فركله أحمد بقدمه وقال "يلا لنتصور".
أما أحمد أبو الرب فعاد إلى منزله بعد انتهاء العمل في مشتل عمه، وجلس قليلا مع عائلته وعندما جاءه اتصال هاتفي من "أبو حلمي" وهو محمد كميل، خرج من المنزل.
كان على الفدائيين الثلاثة أن يجدوا أعذارا مقنعة لغيابهم عن المنزل، فأحمد زكارنة تذرّع بأن لديه جلسة محكمة في جنين عليه أن يحضرها، أما محمد فقال لعائلته بأنه سوف يأخذ إجازة ليذهب مع أحمد إلى المحكمة، ولأنهما كانا دائما رفيقين فإن الأمر بدا طبيعيا للعائلة.
أما أحمد أبو الرب فأخبر عائلته، بأنه سيتأخر عن العمل لأنه ذاهب لتغيير نظارته الطبية، إذ ليست مناسبة له رغم أنه قام بتفصيلها قبل ما يقارب عشرين يوما.
اليوم الموعود
في يوم الأربعاء انتهى العد التنازلي للـ 40 يوما، رحيل الصديق واقتحام المسجد الأقصى والاعتداء على نسائه، الذل والإهانة التي يعيشها الفلسطيني في كل يوم، كانت أسبابا كافية بالنسبة لهم للإصرار على تنفيذ خطتهم.
فجر ذلك اليوم استيقظ أحمد زكارنة توضأ وصلى الفجر، ثم ذهب إلى غرفة الجلوس ليقرأ القرآن كما هي العادة في كل يوم، استيقظت والدته ولم تجد أحمد ينام بجانبها، فعقب خروج والده إلى العمل كان يذهب لينام بجانب أمه.
توجهت والدته إلى غرفة الجلوس فوجدته يقرأ سورة الرحمن، جلست وقرأت سورتين من القرآن ثم استلقت طلبا لمزيد من الراحة، وعندما استيقظت كانت عقارب الساعة تشير إلى السابعة، قالت في نفسها "لم أوقظ أحمد كي يذهب إلى عمله".
في تلك اللحظة كان أحمد يقف أمام المرآة يرتدي ملابس جديدة ليست ملابس العمل، فسألته أمه "إلى أين" فأجاب لدي اليوم محكمة! فردت عليه غير صحيح، فأكد لها قوله.
سار أحمد نحو الباب دون أن يتلفت إلى أمه، فقالت له، "يما أحمد سكر الباب منيح وراك"، فأجاب سريعا كمن أراد أن يتهرب من سؤال آخر أو جملة تجعله يلتفت إليها مودعا إياها، وأجاب "طيب طيب".
تقول والدة أحمد لـ قُدس الإخبارية، "شعرت كأنه ينظر إلي بطرف عينيه، دون أن يتعمد أن يلتفت إلي، خشية من أن يشعر بالحنين ويتراجع".
لم يتفق الشهداء الثلاثة على طريقة الوداع، لكن ربما كان وداع صديقهم أحمد ناجح المماثل بمثابة الطريقة الأفضل كي يواصلوا مسيرهم لهدفهم.
عند صلاة الفجر ذهبت والدة محمد كميل لتوقظ ابنها، صلّى ثم عاد للنوم، وفي تمام الساعة السابعة صباحا استيقظ ليحضر نفسه، تناول طعام الإفطار مع عائلته ومن ثم ذهب ليصلي ركعتين كما يفعل كل يوم، وخرج من المنزل.
أثناء خروج محمد كانت والدته على سطح المنزل، فنادت عليه سائلة، "لماذا ترتدي سترة أخيك؟" واصل السير دون أن ينظر صوب أمه واضعا يديه في جيبه ومغطيا وجهه بطاقية.
أما أحمد أبو الرب فاستيقظ صباحا وخرج مرتديا ملابس جديدة، وعندما نهضت أمه وسألت شقيقاته عنه أجبن، "خرج ولم يكن يرتدي ملابس العمل"، فطلبت منهم أن يتصلن به وعندما أجاب قال، "ألم أقل لكِ إنني ذاهب لتغيير النظارة"، فقالت شقيقته النظارة في البيت! فأجاب، "خلص بدي أجيب وحدة ثانية".
الساعة العاشرة صباحا، عاد أحمد إلى البيت متسللا محاولا أن لا يراه أحد، توجه نحو غرفته غيّر سترته وأخذ هويته وخرج.
تقول شقيقة أحمد، "صادفت أحمد في المطبخ وعندما بدأت أتحدث معه أدار وجهه، وخرج من البيت يمشي بخطى ثقيلة".
مفقودون
دقت الساعة العاشرة والنصف.. اتصلت أم أحمد زكارنة على زوجها لتسأله إن كان أحمد بالفعل لديه محكمة، فأجابها بأنه ليس صادقا، إذ كان لديه محكمة يوم الخميس الماضي، وبدأت العائلة تتصل بنجلها على هاتفه لا يجيب.
اتصل اسماعيل على محمد لأنه يدرك أنهما دائما سويا، لم يجب هو الآخر، فاتصل على والده يسأله عنه، فأجاب بأن محمد ذهب مع أحمد إلى المحكمة، أدركت العائلتان أن أمرا غير مريح يحدث وبدأتا البحث عنهما.
وجدت صفاء شقيقة أحمد زكارنة هاتفه، كان مخبأ أسفل مخدته، وفتحته إذ كشف لها قبل أسبوعين عن كلمة السر التي يضعها على هاتفه، لتجد مذكرة الهاتف هي آخر شيء كان يستخدمها أحمد، كتب عليها وصيته.
حوالي الساعة الثانية عشر ظهرا بعث أحمد برسالة من هاتف الشهيد أحمد ناجح إذ كان الوحيد الذي يحمل هاتفه، إلى جواله يقول فيها، "سامحوني أريد منكم أن تسددوا دينا علي لابن عمي".
خرج والدا محمد وأحمد بالسيارة يبحثان عنهما على حاجز الجلمة وبرطعة، وأثناء طريقهما إلى حاجز زعترة وحوارة، جاءهما اتصال من العائلة بأن الاعلام يتحدث عن عملية في القدس.
أما عم أحمد ناجح فاتصل عليه الساعة العاشرة والنصف، ليجيب على الهاتف ويطمئن عمه بأنه سيأتي للعمل بالمشتل عقب ساعة، لكن تأخر أحمد أثار الشكوك لدى عمه فاتصل عليه وكان الرد التلقائي بأنه لا يمكن الوصول، فاتصل على والده وبدأوا بسؤال أصدقائه عنه.
الساعة الواحدة ظهرا وفي باب العمود، نفذ الفدائيون الثلاثة عملية إطلاق نار وطعن قتلت خلالها مجندة وأصيب اثنان آخران، ليتخبط جنود الاحتلال حينها ويطلقوا النار عشوائيا وينجحوا إثر ذلك في قتل الأصدقاء الذين ارتقوا شهداء على الأرض المقدسة التي تمنوا أن يدخلوها يوما.
يوم الجمعة تسلمت عائلات الشهداء جثامين أبنائهم، ذهب اسماعيل زكارنة إلى المقبرة ووقف عند قبر أحمد عوض وقال له، "سامحنا يا أحمد، فأصدقاؤك تأخروا عليك، كانوا يزورونك كل يوم جمعة صباحا، لكن اليوم جئنا نحن بهم إليك محمولين على الأكتاف".
دفن الفدائيون الثلاثة بجانب صديقهم أحمد عوض كما طلب الشهيد محمد كميل في وصية جماعية، "وصيتي لكم أن تدفنوننا بجانب عند الشهيد أحمد أبو الرب".