شبكة قدس الإخبارية

صلاة البداية

ولاء بزور

إنها الموسيقى ذاتها التي يسمعها كل ليلة، أخذت طريقها إلى قلبه، كيفَ للصوْت أن يخطف تفكيره إلى الأسئلة العالقة في أعمق نقطة تفكير في دماغه؟! الحطب في الكانون أمامه أخذ يتلوّى ويستحيل إلى رماد، وأسئلته يرسمهاعلى الرماد دونما وعي بالغصن اليابس الذي يمسكه. لماذا يضعنا الله في هذه المرحلة دون أن يعطينا طريقة الوصول إلى المرحلة التالية؟! في كل خطوة نخطوها في الاتجاه الخاطيء يتقدّم الطرف الآخر خطوة في طريقه الصحيح لنصل في نهاية الأمر إلى خط مواجهة متقدّم وقريب من تخبّطنا في الخطأ، في كل ليلة تبتلع النيران كل تلك الأسئلة دون أن تترك له المجال للتأمّل فيها، حياتنا عبارة عن الأسئلة المتراكمة التي لا نمنح أنفسنا الوقت الكافي للتأمّل فيها فينقضي الوقت دون أن نجد خط البداية.

هذا اليوم جاءه وسواسه مبكّراً وهو في طريق عودته إلى المنزل، ما معنى أن نستنسِخ نفس الحياة التي عاشها ملايين البشر من قبلنا، ماذا يعنيه أن أتزوّج فتاة لتُنجِب طفلاً يتساءل نفس الأسئلة التي تأكل رأسي الآن؟! أن أجعله يعيش عشرين عاماً على الأقل من الأدلجة التي سأفرضها عليه ليكتشف بعد تمرّده عليها أنه ببساطة يعيش حياة كاذبة، فيقع بين فخاخ البحث عن الحياة الحقيقية التي أنا في أحد فِخاخها الآن.

 لم يكن طيفها بعيداً، كانت تتجلّى له من بين قش وساوِسه وتغوص فجأة فيقفز إلى الكومة ليبحث عنها فيجد نفسه قد بعثَرَ أفكاره مرّة أخرى. ماذا يعني أن أُحبّها بمثل هذا الوقت الذي لا أستطيع فيه أن أُجيبها ماذا أريد؟!. بالتأكيد ستتحوّل إلى مصارع وتصفعني على وجهي إن قُلت لها أنني أحببتُكِ بذات القوّة التي أوجدتني في الحياة دونَ أن أجِد تفسيرا لكليْهما.

أعاده من هذيانه مشهد أطفال القرية وقد تجمّعوا منذ ساعات الصباح حوْلَ لعبة "الجلول" ،أدارَ ظهره وهو يقول لماذا تأخذ الفكرة الواحدة كلّ هذا العدد والوقت؟! لو كان أحد الأطفال صوّيباً لقصّر وقت تلك اللعبة.

لم يكن منظر والده في ركن الغرفة وهو يبتهل إلى الله غريباً عنه، لطالما قالَ لفارس واخوته أنّه يتمنى أن يموت وهو ساجد لله تعالى، كان فارس يتنهّد عندما يراه ويتمتم: "لا يهم كيفَ سيموت والدي فالموت سيحضر له بالشكل ذاته، بل المهم أنّه بكل سجدة سيسجدها سيستشعر فكرته، سيكون راضياً إن لم يمُت بعد تلك السجدة، فالحياة لا تلتحم مع الموت إلا بالفكرة التي تجعلك لا تفرّق بينهما" .

خرج من البيت وهو يستذكر ما قالَه لأبيه الجالس كعادته على سجّادة الصلاة أنّه ذاهب ليبحث عن صلاته، وكيفَ بقي أبوه ينظر إلى مسبحته ولم يعِره اهتماماً، فتجرّأَ وقال له ربّما يطول الأمر وبقِيَ في سكينته، فخرج مُسرعاً ليخرج قبل أن يعود والده من وَقارِه ويجيئه صوْته ليُعيده ، لم يُصدّق ما حدث، كيف سمح له بالغياب عن البيت دون مشاجرة تنتهي بالخروج هرباً من أحد الشبابيك؟!.

خمّن أنه طفق منه ولم يكُن راغباً بمشاجرة بعد صلاته الروحانية فتتلبّسه كل شياطين العالم، فأكمل المسيرإلى بيت علاء، تمدَّد على سرير صديقه الذي كان بدوره يضحك ويقول له: "ايش المصيبة الجديدة يلي عاملها وهارب؟".

ضحك فارس عندما تذكَر آخر مرة هرب بها إلى بيت صديقه، كانت عندما سرق سيارة جارهم الذي يعمل في "الأونروا" وأَخَذ "يشوّط" في المخيّم الذي اتسعت شوارعه لسياسات لم تكن تعنيه وقتها سوى انهم أبعدوا شبّاكه عن شبّاكها.

لقد وجدوا السيارة ولا يُرى منها سوى كلمة "أونروا" على جانب طريق في بداية المخيّم.

- لماذا فعلت هكذا يا فارس؟!

- هناك مخدّر صغير يسري بدمائنا يربطنا بأشياء لا نطيقها، تحتاج فقط لجُرأة مرّة واحدة لتخويفها فينقشع تجبّرها.

- ولماذا انت هنا هذه المرّة؟

- لأنظر إلى سقف غرفتك، لطالما أدهشتني زخارفه العثمانية القديمة، علاء أتعتقد أنَّ الإنسان يعيش لنفسه؟ هل ستجيبني تلك الإجابة السخيفة بأنّك تدرس كل تلك العلوم لتطوّر ذاتك؟ أنتَ في النهاية ستكتشف أنّك خدمة للآخرين وأن الآخرين خدمة لغيرهم، أنا أؤمن أنَّ الهوامش ترسم شكل المتن، أنظر إلى السقف، إنه متن قويّ يحتاج إلى الهوامش .

لم تكن صلاته بعيدة عنه كما تخيّل، كان متأكدّاً أنَّ هدم المخيّم وبناء قصور لن تشكّل هاجس "الحضارة"، فالصغير يُدرك قبل الكبير أن العلاقة بهذا المكان علاقة مؤقّتة تنبُع من ارتباط قوي بالأصل، فارتباط المستوطن الذي جاء من اللاشيء إلى الشيء الذي يعتقدون أنّه الأصل تختفي عند أول طلقة على منزلهم، أما العلاقة التي تربط أهل المخيّم مع جُدران بيتهم المهجور في صفد لا تزعزعها موت فلذات أكبادهم وهدم حياتهم في كل مرّة والبدء من صِفر مقوّمات العيْش .

لم يطُل الأمر.. أعدَّ نفسه وسرَقَ حمار أحد جيران علاء وتوقّف على الحدود وركلَه بقوّة ليفرّ إلى حقل الألغام أمامه وتتناثر أشلاؤه، فاخترقَ فارس الحقل بعد أن مهّدَ له الحمار الطريق وهو يضحك، "هذا الحد الوهمي الذي يصنعه الخوف نخترقه بحمار!!".

كان موعد العيد قد اقترب وفارس يمرّ إلى الكنيس كل يوم، في اليوم الرابع أُعطِيَ نُسخة من التوراة وقيل له إنها نجاته، أخذها بانبساط وخرج من المكان مستعدّاً ليومه المشهود في الغد.

في اليوم التالي بينما هو يعد الدّقائق  ابتاعَ جريدة من دُكّان عربي فأخذ يقلّب الصفحات لتأتي عيْنه على صورة أبيه في صفحة التعزيات، فصرَخ يا إلهي لم يكُن صامتاً، بل كان ميتاً على سجّادته!.

ابتلعَ حسرته وطوى صفحات الجريدة باحترام على صورة والده وكأنّه يطوي حجار القبر على جثمانه وقبّله ثم دخل إلى الكنيس، إنها الساعة التي سيحضر بها كبار الوزراء، جلس بجانب الذي أعطاه التوراه وقال له بالعبرية التي تعلمها من والده: "أشكرك فلوْلاه لم أكن أدري ماذا أفعل".

فتح التوراة وأخرج مسدسه منها، فقد أفرغ الأوراق على شكل المسدّس ليستطيع إخفاءه، يقول أبناء المخيّم  أنَّ الطلقة الأولى كانت في رأس اليهودي صاحب الكتاب، والثانية في رأس الوزير، والباقيات بمن جانب الوزير حتى أفرغ الحمولة فأخَذ يلكم بالفارّين بهيكل المسدّس حتّى اخترقته ستة وثلاثون رصاصة، عادت إلى نحورهم أضعافاً بعد أن كسَرَ هاجس خوف المخيّم من خطّ البداية.