القدس المحتلة - قُدس الإخبارية: في الثاني عشر من تشرين الأول الماضي، وفي نفس اليوم الذي ارتقى فيه الشهيدان مصطفى الخطيب وحسن مناصرة في القدس، انضم إليهما قرابة الثامنة والنصف مساء الشهيد محمد شماسنة (22 عاماً) بعد أن طعن مستوطنين اثنين داخل حافلة إسرائيلية بالقرب من المحطة المركزية غربي القدس.
في منزل عائلته في بلدة قطنة شمال غرب القدس، التقت شبكة قدس الإخبارية والدته رسيلة شماسنة (45 عاماً) لتحدثنا عن حياة ابنها وذكرياتها معه.
تبدأ رسيلة حديثها باستذكار ردة فعل أهالي قطنة عندما علموا باستشهاد محمد، إذ لم يفاجئهم الخبر. تقول رسيلة: "علق الناس لى عملية محمد بالقول: "لمين بده يطلع يعني؟ مثل أمه وأبوه". وتشرح رسيلة بأنه سبق لزوجها نظمي، والد محمد، أن قضى 6 سنوات في سجون الاحتلال الإسرائيلي بعد أن اعتقل بتهمة محاولة تفجير أنابيب الغاز في مستوطنة "تلز سطون" القريبة من قطنة في ثمانينات القرن الماضي.
أما رسيلة والدة الشهيد محمد – فهي صاحبة شخصية عنيدة وقوية، يظهر ذلك من مشاركتها الدائمة والمستمرة في الفعاليات الشعبية للمطالبة بالافراج عن جثامين الشهداء المحتجزين. كما برزت مشاركتها في الجنازة الرمزية التي نظمت في رام الله إكراما للشهيد نشأت ملحم منفذ عملية شارع ديزنجوف مطلع هذا العام. وقد انتشرت صورتها وهي تطلق النّار في الهواء تحيةً لابنها عندما وصل جثمانه إلى بيتها في قطنة.
آخر زجاجة مولوتوف
في آخر ليلة لمحمد في المنزل استيقظت والدته رسيلة على أثر قنبلة إنارة ألقاها جيش الاحتلال فوق منزلها القريب جدا من الجدار الفاصل الذي يفصل قرية قطنة عن مستوطنة تل أدار غربي القدس. قامت رسيلة من سريرها لتجد محمد مستيقظاً فقالت له "الجيش لا يضرب قنبلة الإنارة إلا إذا كان هناك من ألقى الحجارة باتجاههم"، لم يعلق محمد شيئاً سوى أنه ابتسم.
فهمت رسيلة معنى الابتسامة فنادته "تعال تعال أشم ايديك"، وكانت في يديه آثار رائحة البنزين، فعلمت رسيلة أن ابنها ألقى زجاجة مولوتوف باتجاه دورية جيش الاحتلال التي تمرّ بشكل دوري بمحاذاة السّياج الأمني الفاصل. على الفور طلبت منه الخروج من البيت، حتى لا يجد الجيش في البيت أحداً يعتقله في حال مداهمته. وبعد مرور أكثر من نصف ساعة دون اقتحام البيت رجع محمد إليه ليمضي ليلته الأخيرة فيه.
لم تكن زجاجة المولوتوف تلك الأولى في حياة محمد، فقد كان نشطاً في المشاركة في المواجهات ضدّ قوات الاحتلال، وقد سبق أن أصيب برصاصة اخترقت فخدته اليمنى ومن ثم اليسرى خلال مواجهات شارك فيها في العام 2008 احتجاجا على إقامة السّياج الفاصل حول بلدته قطنة.
لم يخلد محمد للنوم في تلك الليلة. تقول أمّه رسيلة أنها كانت تسمع وقع خطواته في البيت، كان يذرع البيت مشياً، ويشغل وقته بتحضير عصير الرمان في المطبخ، تقول: "يبدو أنه كان يفكر كثيراً ليلتها". تشير رسيلة إلى زاوية في صالون بيتها وتقول: "رأيته يصلي هنا قيام الليل، ولاحظت أنه أطال في الدعاء، لكن لم يخطر على بالي السؤال عن سبب هذه الإطالة، أو عن فحوى دعائه".
بعد صلاة الفجر غلب محمد النوم فدخل إلى فراشه. كانت أخته سارة أول من يستيقظ للمدرسة ذلك اليوم، وكانت وسادة محمد قد مالت قليلاً تحت رأسه، قامت سارة بتعديل الوسادة فشعر بها محمد ومد ذراعيه وحضنها، وأعطاها قلادة تحمل خارطة فلسطين وقال لها: "خذي بالك منها". استغربت سارة من تصرف أخيها وحضنه المفاجىء ورجحت أنه "ربما يحلم".
وبعد صلاة الظهر، "كالعريس" كما تصفه أمه، استعد محمد للخروج من البيت بعد أن استحم وارتدى ملابس جديدة كان قد اشتراها تحضيراً لعرس أخيه القريب. حاولت أخته ثنيه عن تلك الملابس الجديدة قائلة أن أمه ستغضب لأنها المفروض مخصصة للعرس وليس للأيام العادية. لم تنجح أخته في ذلك، وقبل أن يخرج من البيت أخرج من هاتفه الذكيّ شريحة الخطّ الهاتفي وأعطاها الجهاز قائلاً: "هذا هدية لك". تقول رسيلة: "كان يغضب إذ لعب أحدهم بهاتفه، خصص راتباً كاملاً لشراءه. استغربت أخته من هذه الهدية المفاجئة إلا أنها رجحت أنه ينوي شراء هاتف أحدث منه.
تسريحة "حرس الحدود"
وقبل استشهاده بيوم، طلب محمد من أخيه معتصم وهو حلاق بأن يقصّ له شعره محدداً له تسريحة بعينها وهي ما تسمى "قصة حرس الحدود"، أي أن يقص له شعره على طريقة جنود حرس الحدود الإسرائيلي. استغرب معتصم من طلب أخيه المحدد والذي عادة ما يلجأ إليه عند رغبته التّهرب إلى الأراضي المحتلة عام 1948 بدون تصريح، إلا أن محمد أقنعه أنه يريد هذه التسريحة فقط لأنها "جميلة على وجهه".
وتشير رسيلة بأن ابنها الشّهيد محمد قد قضى آخر يومين له وهو يودع أهله وأصدقاءه. ففي اليوم الذي سبق استشهاده ذهب محمد لزيارة جدته والدة أمه، وقام بمساعدتها في تنظيف البيت، ومن ثم أصرّ عليها أن تتصوّر معه لكنها رفضت ومازحته قائلة: "بديش أتصور.. هلأ بتحط صورتي على الفيسبوك". تعلق رسيلة، والدة الشهيد محمد، بالقول: "لم تشأ أمي أن تنشر صورتها على الفيسبوك فيراها أهل قطنة، لتنشر بعد ذلك في العالم العربيّ بعد استشهاد محمد" في إشارة لاستضافتها على الفضائيات العربية للتعليق على استشهاده.
التّرتيب لعرس أخيه قبل الرحيل
لم يكتف محمد بزيارة أقاربه ووداعهم قبل انطلاقه لتنفيذ عمليته، إنما فكّر كذلك بأحوال عائلته بعد استشهاده فيما يعكس رغبته في أن "تستمر الحياة". تروي والدته رسيلة أنه قبيل استشهاده بأيام قليلة أصر أن يصطحب أخاه معتصم ليحجز له في إحدى قاعات الحفلات استعداد لحفلة زواجه قائلاً أن هديته لأخيه في يوم زواجه ستكون تحمل تكاليف حجز القاعة.
أما عن تاريخ العرس، فقد فكر محمد بالتاريخ الذي يبعد بعض الشيء عن موعد استشهاده المنتظر، فقال أنه يريد أن يقام العرس في الأول من يناير الماضي. تقول رسيلة: "قلنا له ولماذا بالذات هذا اليوم؟ فأجابنا "عشان يكون بالكم مرتاح". لم تتوقف رسيلة وأبناؤها عند هذه الإجابة وأقنعهم محمد بأن هذا التاريخ يعجبه وأنه سيكون مناسباً للاحتفال بعرس أخيه.
لم ينشر الاحتلال فيديو لعملية شماسنة، إلا أن والده رأى الفيديو الذي سجلته كاميرا الحافلة الإسرائيلية عندما استدعته مخابرات الاحتلال للتحقيق. تخبرنا أم محمد أن ضابط المخابرات سأل زوجها: "ما هذا الابن الذي لديك؟ سوبرمان؟"، فأجابه الأب: "لا بل سوبر إيمان". وبحسب والدة محمد، يظهر من الفيديو أنه طعن جندياً داخل الحافلة، وخطف سلاحه ولكنه لم ينجح في اطلاق النّار منه فبدأ يضرب بعقب البندقية المستوطنين في الحافلة، ومن ثمّ خطف مسدساً من شرطي إلا أن أحد المستوطنين باغته وسيطر عليه قبل أن يطلق عليه النّار ويستشهد داخل الحافلة.
يحكي أهالي الشهداء عن أبنائهم وبناتهم الشهداء باعتزاز وود، يستذكرون أجمل لحظاتهم، ويملؤون المجالس بالضحك وهم يرون مواقفهم المضحكة والمسلية. لا يعني هذا الاعتزاز وهذا الضحك غياب الحزن والألم. في لحظات قصيرة تتحول ضحات أم محمد بعد أن تحدثت عن ابنها وحياته إلى دموع عندما بدأت تروي لحظات إخبارها باستشهاده. تقول رسيلة: "حلم، ولا كأني خلّفته، اذا حدا قلي انه محمد مش راجع، بقول شو هالحكي الفاضي.. محمد راجع".