المشهد السياسي الفلسطيني دخل في أزمة عميقة، ليس بفعل التحريض والتراشقات الإعلامية المستمرة بين طرفي الانقسام (فتح وحماس)، بل تدحرجت كرة الثلج الى داخل بيت المنظمة وحركة فتح وبقية الفصائل، حيث تم التحشييد والتجييش بين مجموعة من المحاور والأطراف سواء داخل فتح او منظمة التحرير، ولتبلغ الحرب ذروتها والأزمة مداياتها عبر حملات المبايعة والتضامن، ولتصل حد اعتبار التنسيق الأمني منجز "وطني"، يستوجب التخوين والتحريض لمن يطالب بوقفه او اعادة النظر في أشكاله.
فمن مطلب وطني شعبي ومؤسسات رسمية مجلس مركزي ولجنة تنفيذية في ظل "تغول" و"توحش" الاحتلال على شعبنا وأرضنا، وممارسة كل أشكال القمع والتنكيل بحقه من اجل وقفه وإعادة النظر فيه ومراجعة الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية والسياسية معه، الى اعتباره "منجز" وطني لا يجوز توجيه سهام النقد للقائلين به، فهو مس بوطنيتهم وتاريخهم النضالي.
وهنا استحضر مثالاً شبيهاً بعد ان اعلن المستوطن رامي ليفي عن نيته اقامة "مول تجاري" على مساحة عشرين دونماً من أراضي الرام الفلسطينية، وبمشاركة رأسماليين ومستثمرين فلسطينيين ومقدسيين، سيخرج عليك من يقوم بحملات تضامن لمن مارسوا التطبيع مع رجل الأعمال الصهيوني رامي ليفي وليقولوا لك، هؤلاء قدموا مساعدات ودعم للعديد من المؤسسات المقدسية والفلسطينية، فلماذا القول عنهم بانهم مطبعون..؟؟ وهم من يوفرون فرص عمل لعمالنا واعمالهم الخيرية تتحدث عنهم...؟؟؟
نعم هذا منطق العبث "والفنتازيا" و"التحشيش" الفكري والمبايعات والتجييش القبلي والجهوي، فالمال والمصالح الخاصة والمناصب والعلاقات والمراكز والسلطة تبيح أي شيء. وهناك من هم قابلون لتدوير الزوايا بشكل حاد في سبيل المصالح والمنفعة والمصلحة.
اللواء جبريل الرجوب عضو اللجنة المركزية لحركة فتح وهو احد من هم مطروحون او يتصارعون على خلافة الرئيس، انتقد علناً سياسات الرئيس عباس من على شاشة تلفزيون فلسطين، وقال بان تلك السياسات متخبطة، وبعد ذلك عبر عن رفضه القاطع تعيين رئيس فلسطيني ينزل بالبراشوت حسب وصفه، أو من خلال سلق مؤتمر كالمؤتمر السابع مسيطر عليه.
لم يتاخر الرد من قبل الرئيس، أقال المسؤول عن الإعلام الفلسطيني وعين بدلاً منه الناطق الرسمي لحركة فتح احمد عساف، وهو يوصل رسالته للواء رجوب، بانه لن يسمح له او لغيرة بالانتقاد عبر وسائل الإعلام الرسمية.
المرشح المتوقع لخلافة الرئيس، كبير المفاوضين الدكتور صائب عريقات، والذي رشحه الرئيس اميناً لسر اللجنة التنفيذية بدلاً من ياسر عبدربه، واضح بان هناك شيء ما يحدث خلف الكواليس في إطار رفض خلافة عريقات لعباس، وهناك من يعتبر نفسه احق منه بالخلافة، فعريقات منتسب جديد لفتح قياساً لـ"الحيتان" الآخرين، ولذلك مسألة الكشف عن جاسوس للاحتلال في مكتبه ليست بريئة ولا عفوية ولا غيرة من كاشفيها على المصلحة الوطنية، بل هي رسالة للدكتور عريقات.
ولعل فضائية "الجزيرة" في فضائح ويكليكس قد تحدثت عن تلك الوثائق المسربة من مكتب عريقات قبل سنوات، ولا اعتقد بانه في مكتب عريقات يجري وضع خطط لتخصيب اليورانيوم، او التحضير لانتفاضة ثالثة أو رابعة، بل وثائق تفاوضية يجري تداولها ونشرها بين الحين والاخر.
وقبل جاسوس مكتب عريقات، من يحركون ويحبكون خيوط اللعبة، اتخذوا قراراً بوضع حد ونهاية لياسر عبد ربه، نهاية تخرجه من كل دائرة العمل السياسي، فهو قضى جزءا كبيرا من عمره في الدفاع عن السلطة ورئيسها وسياساتها، قبل ان يكون واحداً من مهندسي اتفاق اوسلو المشؤوم، وأحد قادة او أمين عام الاتحاد الديمقراطي – فدا – منشقاً به عن الجبهة الديمقراطية، تحت يافطة غياب الديمقراطية في الجبهة الديمقراطية، وليخرج منه عندما فشل في تسويق بضاعته الكاسدة.
المهم وكما يقول المأثور الشعبي "في ليلة ظلماء، ليس بها قمر" وبطريقة غير شرعية، نفس الطريقة التي انتهى بها عبدربه للجنة التنفيذية وامانة سر اللجنة التنفيذية، اتخذ الرئيس قراراً بإقالته من اللجنة التنفيذية، حتى لم يعطه فرصة للدفاع عن نفسه، فالقرار اتخذ في غيابه وسمع به من الإعلام، ولاحقاً اتهم بممارسة انشطة تطبيعية من خلال مؤسسة له ممولة من قبل الحكومة السويسرية، وعبدربه هو صاحب وثيقة عبدربه – بيلين، التي حاولوا فيها كـ"جهابذة" البحث عن حل ألمعي يلتف على قضية حق العودة للاجئين.
اليوم وفي إطار توجيه ضربة قاصمة لعبد ربه، الذي لا حاضنة شعبية له ولا سياسية وحتى أقرب المقربين اليه يقولون له موعدنا "الجنة" يا أبا بشار، فتح له ملف التهمة بالفساد، وهذا الملف لم يخرج بين ليلة وضحاها، بل كان مركوناً على جهة حتى تاتي اللحظة المناسبة لكي يوضع عبد ربه تحت المقصلة وينتهي.
وفي التوازي كانت "الحبلة" تلتف حول عنق رئيس الوزراء السابق سلام فياض الذي تزعم التيار الثالث، وفي إطار عمله ودوره عمل على تحجيم نفوذ ودور فتح في الحكومة والسلطة، ومنع تدفق الأموال عنها واليها، واستطاع ان يستقطب عددا من مفاصلها المؤثرة لمواقفه وسياساته.
ونظراً لكونه يتمتع بشبكة علاقات واسعة على المستوى الدولي وحتى العربي، ومقبول امريكيا واسرائيلياً وعربياً، فحتى لا تكون له أية فرصة مستقبلية كخليفة أو رئيس بدل الرئيس محمود عباس في حال غيابه او رحيله عن المشهد السياسي، فلا بد من تقليم اظافره وتطويعه، فكانت الاتهامات له بالتنسيق مع دولة عربية واطراف فلسطينية "دحلان" من اجل المس بالسلطة الفلسطينية، فجرى اغلاق مؤسسته "فلسطين الغد" والتحفظ على أرصدتها في البنوك، وجرى تفتيش مكتبه والمؤسسة التابعة له، وفي إطار المعركة القضائية لم يتم ادانة فياض لا بتهم المس بالنظام السياسي والسلطة او جلب اموال غير مشروعة، واعيد فتح مؤسسته من جديد.
المهم بقي الهاجس الأكبر عضو اللجنة المركزية محمد دحلان، فهو رغم الفصل وكل الاتهامات الموجهة له من فساد مالى الى ممارسة القتل بحق الشرفاء والمناضلين والتآمر على المشروع الوطني مع جهات عربية واقليمية ودولية، لم يفلح من يحركون ويحيكون خيوط اللعبة في إقصائه عن المشهد السياسي، فما زال لديه نفوذ واتباع، ناهيك عن ان لديه اموال، وهذه الأموال مؤثرة حتى بالدائرة المحيطة بأصحاب القرار.
جاءت القنبلة الجديدة المعمقة للأزمة في حركة فتح والمنظمة، قضية التصريحات التي اطلقها رئيس المخابرات الفلسطينية ماجد فرج، حول قيام السلطة الفلسطينية بإحباط اكثر من (200) عملية ضد اهداف اسرائيلية واعتقال (100) مقاوم.
هذه القضية التي اكد عليها الرئيس عباس وقال بانها صادرة عنه، وبان التنسيق الأمني مستمر، خلقت حالة من البلبلة والارتباك في المنظمة وفتح والفصائل، وترافقت تلك التصريحات، مع خطوة ليست بالبريئة، كجزء من معركة الصراع على الخلافة وكسب الولاءات، قضية الترقيات لجيش المدراء والمدراء العامين، ولذلك كل من انتقد او وقف ضد تصريحات رئيس جهاز المخابرات الفلسطيني، وضع في خانة المناكف والمزايد الذي لا يعرف مصلحة الشعب الفلسطيني.
وهذا الرجل مناضل مشهود له ومنزه وفوق الشبهات، وكأن المطالبة بوقف التنسيق الأمني أضحت نوعاً من الخيانة، هذا المطلب الذي هو شعبي وجماهيري وفصائلي وصادر عن هيئات رسمية (مجلس مركزي ولجنة تنفيذية)، وقد جرت عملية التجييش والمبايعات كرد على المنتقدين والرافضين والمطالبين بالمساءلة والمحاسبة لرئيس جهاز المخابرات الفلسطيني، والذي لا نتهم او نشكك في وطنيته، في إطار الحشد الجهوي والعشائري والقبلي، وهذه ظاهرة تستحق التدقيق فيها جيداً، فنحن امام عشائر وقبائل تقف الى جانب ابنها، وهنا تغيب الفصائلية وتختفي الحدود فالمستهدف هو ابن مخيم او قرية او مدينة، يجب الوقوف الى جانبه بغض النظر عن لونه السياسي او انتمائه الحزبي.
مشهد سياسي محزن، يضاف له ما يجري في إمارة غزة التي شهدت قبل فترة توزيع حكومة حماس الأراضي العامة على موظفيها الذين لم يتلقوا رواتبهم من ما يسمى بحكومة الوفاق الوطني، ورفض مبادرة الفصائل حول فتح معير رفح، والمناكفات المستمرة والتحريض والتحريض المضاد مع حركة فتح مع استمرار الانقسام وتعمقه.