قالوا إنها الأسد النائم؛ غير أنها تثبت مع الأيام أنها الأسد الذي لا ينام، وبقيت ينبوعا من إقدام وجرأة وتضحيات وأساطير عِزّ عجز العالم عن تدوينها. فاستحقت بحق نياشين فخر وفداء وأوسمة الشرف والاباء، حينما تضعف المقاومة تكن الخليل كطائر العنقاء الخرافي الذي يُبعَثُ من رماده من جديد.
قدمت محافظة الخليل خلال "انتفاضة القدس" وحدها 50 شهيدا وهي النسبة الأعلى بين محافظات الوطن، كما سجلت أكثر من 833 نقطة مواجهة مع الاحتلال و 15 عملية اطلاق نار و 20 عملية طعن و14 محاولة طعن و 3 عمليات دهس.
وعزى بعض المحللين أسباب قوة المقاومة الخليل إلى أن الاستيطان يتوغل في عمق وقلب المدينة، وأن المستوطنين يسيرون بجانب الفلسطينيين ويحتكون بهم بشكل دائم، وأن فقدان الامل و"التحريض المستمر" على أنه الدافع الأكبر، ولكن إن لم أكن أفند هذه النظريات فلا أتفق معها تماماً.
فما الذي يدفع شاباً كمحمد الحروب من بلدة دير سامت ومعه كل الفسحة في حياته ورغيد العيش أن يقدم على عملية بطولية ؟ وأمثاله من رجالات الخليل الكثير الذين ودعوا الحياة وأقبلوا الى الجنان فذاك نشأت الكرمي ومأمون النتشة ومروان القواسمي وعامر أبو عيشة.
لربما أن مقاومة الاحتلال مجبولة بدماء أهل الخليل وتسري في عروقهم، فهي لبان الرجولة التي رضعوها من والداتهم ومن نساء الخليل اللواتي علّمن العالم معنى الرجولة.
كما أن الخليل عُرف عنها صلابة طباعها وقساوة شكيمتها التي استمدتها من صلابة صخورها، وعن بأسها الشديد وان كانت فيما بينها ايضا ولكنها أكثر وأكثر على الاحتلال فلا تقبل بذل ولا ترضى بهون ولا تسكت عن ضيم ولا تسمح لمحتل أن يسقيها كاسات العذاب ولا الذل.
فليس غريبا أن تسمع تصريحا من منفذ عملية اطلاق النار في "غوش عتصيون" محمد الحروب أثناء محكمته وحين توجيه سؤال له هل أنت نادم؟ فيجيب أنه فخور ويتمنى العودة ويكمل المشوار من جديد وحين يصفه مسؤول كبير في جيش الاحتلال اثناء اقتحام بيتهم لوالدته "ابنك شخصيّة... ومقاتل شرس".
لا تتفاجأ أيضا عندما تسمع أن الشاب رائد مسالمة منفذ عملية الطعن في مبنى بانورما بمدينة "تل أبيب" اختار سكينا ذات حجم كبير لضمان إحكام طعناته في المستوطنين، وأن أحد أسباب إقدامه على عملياته أنه سمع ادعاء الاحتلال بأن جميع منفذي العمليات في "انتفاضة القدس" هم صغار السن ولا يعلمون ما الذي يقومون به، فرائد الذي رزق قبل أيام من تنفيذ عمليته بتوأم أطفال، أراد تمزيق هذه النظرية وتفنيدها ليعلم المحتل أن الخليل بشيوخها واطفالها تنتفض في وجهه.
ولا تندهش أيضا بسماع خبر عملية الطعن في مستوطنة "عتنائيل" المقامة جنوب مدينة الخليل والمحصنة جيدا وبحراسة قوات خاصة والذي يقطنها أيضا أحد كبار المستوطنين المتطرفين المستوطن الحاقد يهودا غليك وأن يتمكن المنفذ من الانسحاب بسرعة وبجرأة عالية.
وإن كان هذا اللغز القصير قد تمكن الاحتلال من حله كما يزعم والعثور على منفذ العملية الشاب مراد بدر ادعيس (16 عاما) من بيت عمرة قضاء يطا، فإن هذه ليست هزيمة.
صحيح أن الاحتلال استطاع الكشف عن الكثير من الخلايا ومنفذي العمليات بأوقات قصيرة - وهذا ليس جديدا والاحتلال كشف عن الكثير ايام الانتفاضة الثانية - ولكنه لم يستطع اعتقالهم لأنهم بالعادة يلجأون إلى عمق المدن الكبرى ويصعب على الاحتلال اعتقالهم ويجدون الكثير من الدعم اللوجستي والمادي والبيوت التي تفتح منازلها لهم.
لكن الفارق الان عن صعوبة العمل الامني المقاوم خاصة وأن الاحتلال تطور جدا في العنصر التكنولوجي وضاعف الكثير من كاميرات المراقبة الموجودة على الشوارع الالتفافية وحول المستوطنات عبر نشر الكاميرات السرية أو كاميرات تثبّت في المناضيد وطائرات الاستطلاع، وجمع الكثير الكثير من المعلومات سواء عبر التنصت على الهواتف أو البريد الالكتروني والاستعانة بعناصر أخرى وقلل كثير من العمر الافتراضي لمن ينفذ أي هجوم بل إن الإمر وصل إلى الاعتقال قبل التنفيذ أو خلال فترة تشكيل الخلية .
إلا أن الخليل كانت وما زالت حُبلى بآلاف الأسرار التي عجز الشاباك عن تفسيرها و وقف مذهولا أمام عبقرية مقاومي الخليل وعن بديع صنائعهم مثل عملية قناص الخليل الذي بدأ بالعمل بشكل علني منذ ثلاثة أعوام هذا الشبح الذي تقطعت كل الخيوط وعجزت أذرع الشاباك عن الوصول اليه، وبقي مجهول الهوية الى الان سوى أنه يمتلك قدرات محترفة جدا ومهارة عالية في التصويب ويتشارك مع الطقس ويعمل بتزامن مع اجتياح الغيم للخليل لتحجب الرؤيا وتغمض عين الاحتلال، حتى أن مصادر في صحافة الاحتلال تحدثت أنها هي العملية الوحيدة تقريبا التي تعجز عن الوصول الى طرف خيط لها وأن أكثر من 800 ساعة من البحث لم تجدي شيئا.