فلسطين المحتلة - قدس الإخبارية: الهبة الشعبية الحالية مضى على انطلاقتها أكثر من مئة يوم...وعدد الشهداء فيها وصل الى المئة وسبعة وخمسون شهيداً...والأسرى فاق عدهم الثلاثة آلاف أسير....وفي هذه الهبة الشعبية تحققت انجازات سياسية ومعنوية، وإن كانت لم تصل حد التحول الاستراتيجي بانكفاء الاحتلال عن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، أو تفكيك أي من أشكاله ومظاهره العسكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية وغيرها.
ومن أجل السيطرة على هذه الهبة ومحاصرة مفاعيلها وتأثيراتها وتداعياتها، ومنع تطورها وتواصلها استخدم الاحتلال كل أشكال وأنواع العقوبات، بما فيها القوانين والتشريعات العنصرية، وبما يشمل قوانين الطوارئ الانتدابية، وكذلك كانت العقوبات الجماعية، من خلال إغلاق مداخل وداخل القرى والبلدات المقدسية بالمكعبات الاسمنتية، بهدف شل كافة مظاهر الحياة الطبيعية فيها من حرية الحركة والتنقل الى صعوبة الوصول الى المؤسسات التعليمية والمدارس والمراكز الطبية، وكذلك تقييد حركة المواصلات بشكل كبير، بما يعيق سكان تلك القرى من الوصول الى مركز مدينة القدس واعمالهم ووظائفهم ومدارسهم وجامعاتهم وحتى المستشفيات وغيرها.
ولم يكتف الاحتلال بذلك، بل عدم نجاحه في كسر إرادة المنتفضين وتطويعهم بهذه الأساليب والإجراءات والعقوبات، دفع به الى سن المزيد من القوانين والتشريعات العنصرية والقمعية، واتخاذ المزيد من القرارات من قبل "الكابينيت" الإسرائيلي ووزير الجيش والشرطة والداخلية الإسرائيليين، وكذلك المحاكم الصهيونية بمختلف درجاتها ومستوياتها، حيث كانت القرارات بهدم بيوت الشهداء، ومنفذي العمليات التي يقتل ويجرح فيها إسرائيليون، وفي هذا الإطار جرى هدم وإغلاق العديد من منازل الشهداء والأسرى، كما جرى مع الشهداء علاء أبو جمل وبهاء عليان ومهند الحلبي ومعتز قاسم وابراهيم العكاري، ومنفذي عملية مستوطنة إيتمار المعتقلين في سجون الاحتلال، والأسير محمد أبو شاهين وغيرهم من الشهداء والأسرى، ومن قبلهم جرى هدم وإغلاق منازل الشهداء عدي وغسان ابو جمل ومحمد جعابيص ومعتز حجازي وعبد الرحمن الشلودي.
الاحتلال كان يراهن بأن تلك العقوبات الجائرة والظالمة وغير الإنسانية وغير الأخلاقية والمتعارضة مع كل القوانين والتشريعات والمواثيق الدولية، قد تشكل عقوبة رادعة وضاغطة على أهالي الشهداء ومحيطهم، لثني أبناء أسرهم وعائلاتهم، من السير على هدي من سبقوهم من شهداء وأسرى ومقاومين، وبأن أسر هؤلاء لن تكون لهم أية حاضنة تقف الى جانبهم ترعاهم، تساندهم وتدعمهم، على اعتبار أن أي دعم قد يقدم لهم مادياً او معنوياً عن طريق السلطة او القوى والأحزاب، قد يعرض مقدميها الى الاعتقال والسجن تحت حجج وذرائع دعم "الإرهاب" المقاومة.
هنا كان قرار وخيار الشعب والحراكات الشبابية والشعبية، عبر مبادرات يشارك فيها أوسع طيف من أبناء شعبنا، بشكل علني واسع، فكانت التجربة الأولى بهذا الزخم والحجم الكبير في مخيم شعفاط، وإعادة بناء بيت الشهيد العكاري، وتوفير بيت بديل له في زمن قياسي، ولتتدحرج وتطور تلك التجربة، ومن المخيم امتدت إلى نابلس، والجمع والتبرع لإعادة بناء بيوت أسرى عملية "إيتمار" ومنها الى العيزرية ومخيم قلنديا وغيرها من القرى والمدن الفلسطينية، ولتكن تجربة إعادة بناء منزل الشهيد مهند الحلبي، والتي منها توسعت المبادرات لكي تصل وتمتد الى الجامعات والمؤسسات التعليمية، وحتى وجدنا بان الأطفال أصبحوا جزء من تلك المبادرات والتبرع بمصروفهم اليومي.
سياسات وعقوبات الاحتلال الجماعية أعطت نتائج وردود فعل عكسية، بحيث أن تلك العقوبات الجماعية، زادت ووسعت من دائرة التضامن والتعاطف مع اهالي الشهداء والأسرى، بحيث لم يبق ذلك في إطار النخب الفوقية والفصائل والأحزاب، بل أضحى ذلك يحفر جذوره عميقاً في أوساط الجماهير والحراكات الشبابية.
ولم تكن مبادرة أو إبداع إعادة إعمار بيوت الشهداء والأسرى أو توفير بيوت بديلة لهم، أو مساعدتهم على تدبر أمور حياتهم بعزة وكرامة، هي الوحيدة في هذه الهبة الشعبية المستمرة والمتصاعدة، بل كانت هناك مبادرة رائعة أخرى برفض قرارات الاحتلال وأوامره، والخضوع لأوامر إبعاده، حيث تمرد الأسيران سامر أبو عيشه وحجازي أبو صبيح من القدس على أمري إبعادهما عن مدينة القدس لمدة خمسة وستة وشهور، الصادرة عن ما يسمى بقائد الجيش الى خارج حدود ما يسمى بلدية القدس، تحت ذريعة انهما يشكلان خطراً على أمن الاحتلال وجمهوره، وقد لجوئهما إلى مقر الصليب الأحمر في القدس بتاريخ 25/12/2015، وليجري اعتقالهما من داخل مقر الصليب الأحمر، من قبل وحدة خاصة من قوات الاحتلال في السادس من كانون ثاني/2016، وقد رفضا إطلاق سراحهما مقابل الموافقة على الإبعاد.
مبادرة تحويل التضامن مع أهالي الشهداء والأسرى من عمل نخبوي وفوقي الى عمل شعبي وجماهيري، شكل ويشكل حاضنة شعبية هامة وضرورية ونقلة نوعية في إطار التلاحم والتكاتف بين أبناء شعبنا، وكذلك هي مبادرة "مش طالع" التي بادر اليها الأسيران سامر أبو عيشه وحجازي أبو صبيح، والتي شكلت تحد وتمرد على قوانين وإجراءات وقرارات الاحتلال العنصرية والظالمة.
في هذه الهبة الشعبية المتواصلة، أنا واثق بأن شعبنا وجماهيرنا وشبابنا يجترحون الكثير من المبادرات والإبداعات الخلاقة في سياق ومعمعان العمل والفعل، مبادرات من شأنها مع تواصلها أن تعمق من أزمة العدو الصهيوني، وتزيد من خسائره من جهة، ومن جهة أخرى ستنجح في أن تشكل عامل ضغط قوي على فصائلنا وأحزابنا من أجل أن تنخرط بشكل قوي في هذه الهبة الشعبية، لكي ترسم لها هدفا محددا وواضحا إنهاء الاحتلال للأراضي المحتلة عام 1967 والحرية والاستقلال، عبر توحيد الركائز الوطنية العامة، وبالذات الركيزتين السياسية والتنظيمية، وكذلك هذه الهبة ستدفع طرفي الانقسام (فتح وحماس) الى إعادة ترتيب البيت الفلسطيني وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية من خلال استراتيجية موحدة.