الخليل - خاص قُدس الإخبارية: لم يكن صامد جوابرة يعلم أن سجن "عوفر" سيكون الملتقى الأخير الذي سيجمع بينه وبين شقيقيه خالد وعبد المجيد، حيث لمّت زنزانة شمل الشقيقين صامد وخالد لثلاثة أشهر، بعد أن فرقتهم سلطات الاحتلال وسياساتها التعسفية.
فمنذ زواج محمود جوابرة وفاتنة الهندي قبل أكثر من 35 عاما، لم تجتمع العائلة كثيرا بسبب إبعاد الأب إلى الأردن، ثم عودته إلى البلاد ومن بعدها بداية مشوار الاعتقالات التي لم تتوقف إلى الآن له ولأبنائه.
بعد اجتماع الشقيقين لثلاثة أشهر في "عوفر"، أفرج عن خالد وبقي صامد يكمل ما تبقى من حكمه داخل السجون متنقلاً بين "عوفر و"هشارون" وسجون أخرى، ليعود خالد إلى مخيم العروب شمال الخليل حيث ولد وترعرع.
وتقول والدة خالد لـ قُدس الإخبارية، إن ابنها كان يفكر كثيرا بالمستقبل، ولطالما حلم ببناء بيت ثم الزواج والاستقرار، بعد أن اعتقل لأول مرة عندما كان عمره (14 عاما) ولمدة استمرت 14 شهرا، حرم على إثرها من متابعة دراسته، وتبع ذلك اعتقاله بشكل متقطع بين الحين والآخر، ليقرر التفرغ للعمل وترك الدراسة.
ورغم ذلك فإن أم خالد لم تتوقف عن تشجيع ابنها على العودة للدراسة، لكنه كان يجيبها، "يما رح أجيبلك شهادة أحسن من شهادة التوجيهي بس طولي بالك".
كان خالد خفيف الظل محبوباً وحنوناً على شقيقاته السبعة، تقول سارة شقيقته الصغرى (17 عاماً)، "خالد كان دائما يحاول استفزازي لإنه أكبر مني بسنة، ولإنه كان بحاول يستفزني عشان يضحكني ويراضيني".
ومنذ اندلاع الانتفاضة الحالية تأثر خالد كثيراً بالأحداث، وكان كثيرا ما يغضب عند رؤية المرابطات في الأقصى يستصرخن الفلسطينيين والعرب، لكن استشهاد دانية إرشيد قرب الحرم الإبراهيمي كان أكثر الأحداث تأثيراً على خالد، كما تقول أمه.
وتضيف، "عند استشهاد دانية قال لي: يما تخيليها أختي سارة، شوفي كيف بسحبوا فيها على الأرض"، وتتابع، "ومنذ ذلك الحين جنّ جنون خالد".
في عصر يوم الخميس (26/تشرين ثاني) الماضي، عاد خالد إلى البيت فبدّل ملابسه، وخرج مع صديقه لتحضير الزجاجات الحارقة.
تقول شقيقته سارة، "كنت أجلس على شرفة البيت أنظر إليه، بدأ بتحضير الزجاجة الأولى، وعندما أشعلها تسرب بعض البنزين إلى يده فأحرقها، لكن أصدقاؤه أطفأوها بسرعة، وانطلق وألقاها تجاه البرج العسكري، وعاد لتحضير الثانية".
وتضيف لـ قُدس الإخبارية، "حضر الثانية وانطلق لرميها، لكن رصاصة العدو باغتته وكانت أسرع منه فأصابته، لكنه استمر وألقى الزجاجة ثم سقط على الأرض وحمله الشباب إلى مدخل بيت الجيران، فصرخت بصوت عالٍ "أخوي" وهبطت الدرجات بسرعة إلى أن وصلت إليه".
ركضت سارة بسرعة تجاه شقيقها بلهفة ملؤها الأمل بأن يكون على قيد الحياة، رغم أنها كانت تدرك أنه استشهد فورا حيث شاهدته يرفع سبابته، وتقول، "أخوي استشهد وأنا جنبه قبل نقله للمستشفى، أنا أصلا كنت حاسة فيه كانت روحه بتطلع".
أم خالد كانت صائمة في ذلك اليوم، وتوجهت لزيارة إحدى قريباتها وتناول طعام الإفطار عندها، ومع حلول موعد الإفطار تلقت خبر ارتقاء ابنها كأنها كانت تنتظره، فتقول، "وصلت لمنزلي عند أذان المغرب، فأكلت أول ملعقتين من الطعام، عندها فاجأني اتصال من شخص لا أعرفه، فسألني: وين أنتِ يا خالتي؟ فقلت له: خالد استشهد؟!".
وتضيف، "عدت سريعاً إلى البيت، لأجد أن خالد نقل إلى المستشفى فلحقت به، وصلت إلى المستشفى ولكن روحه كانت مفارقةً لجسده، ضممته إلى صدري وقلت: اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها.. أنت أعطيت وأنت أخذت وهذي أمانة.. ودعتك يما الله يساهل عليك ويرضى عليك".
قتل خالد برصاصة من نوع جديد ومتطور، فهذه الرصاصة سامّة وقاتلة، تدخل إلى الجسم محدثة ثقباً صغيراً، لكنّها تبدأ بتقطيع جميع الأعضاء الحيوية في الجسم، وذلك وفقا للطبيب الذي عاين جثمان الشهيد قبل مواراته الثرى.
في اليوم التالي شيّع الشهيد خالد إلى مثواه الأخيرة في مقبرة مخيم العروب بعد تنفيذ وصاياه الخمس، فتقول أمه، "خالد وصاني وحكالي يما أنا لما استشهد بدي أنتِ تحمليني بالكفن، وتدفنيني وتزغرديلي، وتشغلي أغاني وطنية، وتحكي لكل أولاد اخوتي ولكل الأطفال الصغار إنه خالد استشهد عشان فلسطين، وكلكم اعملوا مثله، وأنا نفذت جميع وصاياه حتى يكون ابني مطمئناً داخل قبره".
وتستذكر أم خالد تلك اللحظات وتوجه في الوقت ذاته رسالة لكل الفصائل بالوحدة الوطنية، وتقول، "احنا ما بدنا أعلام صفراء أو حمراء أو خضراء أو سوداء أو غيرها، احنا بدنا علم واحد يجمعنا وهو علم فلسطين، ووقتها والله إلا نحقق انتصاراتنا بإيدنا، لإنه بوحدتنا قوتنا وانتصارنا".
وبعد 31 يوما من استشهاد خالد، أفرجت سلطات الاحتلال عن شقيقه صامد بعد انتهاء حكمه، ويقول صامد، "أنا فخور جداً بخالد، أخوي رفع راسي وراس كل أهل المخيم، خالد احنا زوجناه لفلسطين الثائرة، وأنا زعلان على اشي واحد بس، إني ما اقدرت أشارك بعرس أخوي الصغير.. احنا مش رح نكون أحن عليه من تراب وطنه، ومباركه إله الشهادة".
وتعلق أم الشهيد، "أنا كنت أسمي خالد وردة الدار، لأنه كان دائما ينعش الدار بكلامه وضحكاته، وكان دائما يشغل أغاني وطنية ويدبك ويحكيلي شوفي يما ما أحلاني وأنا بدبك دبكة فلسطينية".
وتضيف، "أنا بفتقد خالد كثير، بس فلسطين غالية وبدنا نقدملها عشان نحررها، خالد ما بيغلى على الوطن، وعشان الوطن مستعدين نقدم مالنا وأرواحنا وكل شيء بنملكه".
يشار إلى أن رفاق الشهيد خالد أمطروا برج الاحتلال عند مدخل المخيم بعشرات الزجاجات الحارقة بعد ساعات من استشهاده انتقاما له، وقد استدعت إثر ذلك قوات الاحتلال تعزيزات كبيرة إلى المخيم لقمع المحتجين على قتل رفيقهم، حيث اندلعت مواجهات عنيفة تحول فيها ليل المخيم إلى نهار.