يمكن تعريف الاستشارات الادارية بشكل مختصر على أنها "عملية منظمة يقوم بها أفراد ذوو خبرة (مستشارون) لحساب منظمة ما (مستشير)، تهدف الى حل مشكلة بعينها أو احداث تطوير في طريقة وأسلوب تنفيذ الأعمال".
ولا يمكننا القول أن علم الاستشارات من العلوم الحديثة، بل هو نهج لجأ اليه الكثير من قادة الأعمال والقادة السياسيون على مدى العصور، ولكن دخلت الاستشارات الادارية بقوة عالم الأعمال بعد الثورة الصناعية وزادت قوتها والحاجة اليها وتأثيرها مع دخول التكنولوجيا الحديثة في كل مناحي الحياة.
أما في فلسطين فقد دخلت الاستشارات الادارية الى اقتصادنا وعالم الأعمال لدينا بشكل واضح منذ أواسط تسعينات القرن الماضي، ولم يمض على دخولها الى عالمنا بشكل ملحوظ وفاعل سوى عشرين عاما على أبعد تقدير، وكان دخولها مقترنا مع دخول السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث لم يكن بالإمكان أو المجدي ممارسة أعمال الاستشارات الادارية طيلة سنوات الاحتلال وحتى دخول السلطة الوطنية الفلسطينية وذلك لانشغال الناس بالمقاومة وعدم وجود البنية الاقتصادية التي تحتاج الى خدمات استشارية في ذلك الوقت.
ولا بد من الاشارة في هذا المقام الى أن دخول الاستشارات الإدارية وتبوأها مكاناً مهماً في الاقتصاد الفلسطيني، كان متزامناً مع مشاريع اقامة المؤسسات والوزارات وبداية تعريف وتطوير الاقتصاد الفلسطيني، حيث قامت بعض المبادرات الناجحة لإنشاء بعض الشركات الاستشارية الوطنية وانشغل المستشارون فيها في مشاريع ومبادرات اعداد الخطط الاقتصادية والتنموية للمشاريع والهياكل التنظيمية للمؤسسات، وقد لعبت هذه الشركات والمستشارون العاملون فيها والمتعاقدون معها دوراً مهماً في ترسية البنية الأساسية للمؤسسات والوزارات والمصانع والمنشآت الاقتصادية الأخرى.
ولم يكن خافياً في السنوات الأولى من دخول العمل الاستشاري لسوق العمل الفلسطيني، أن تمويل الدراسات ومشاريع الاستشارات الإدارية كان يتم وبشكل اساسي من قبل المؤسسات المانحة التي لم تكن قد توغلت في مجتمعنا واقتصادنا في حينه ولم تحاول فرض اجنداتها الخاصة على المؤسسات والشركات والمنظمات المستفيدة من هذا التمويل.
وقد كان لهذه المرحلة العديد من الفوائد التي عادت على الاقتصاد الفلسطيني فشهدنا خلال السنوات الممتدة من العام 1995 وحتى العام 2005 رواجاً قوياً لفكرة العمل الاستشاري والرسالة التي يحملها المستشارون والتي تمثلت في تعريف المؤسسات المستفيدة بمبدأ التطوير والتحسين وجودة الممارسات الإدارية والمنتجات اضافة الى تسليط الضوء على الفرص الاستثمارية ودراسات انشاء المشاريع الصغيرة والمتوسطة، فشهدنا في هذه المرحلة انشاء العديد من المنشآت الصناعية والإنتاجية الصغيرة، ونمواً ملحوظاً في الصناعات والمنشآت القائمة بحيث انتقل جزء كبير منها من المؤسسات المتناهية الصغر الى الصغيرة أو المتوسطة، واصبح لديها الأنظمة الإدارية والمالية وأنظمة الجودة وتطوير المنتجات، وانطلقت بعض مؤسساتنا الى التفاعل مع مثيلاتها في مختلف أرجاء العالم مما أدى الى شراكات استثمارية مباشرة أو غير مباشرة.
أما المرحلة الثانية التي شهدها العمل الاستشاري والتي بدأت مع نهاية انتفاضة الأقصى في العام 2005 واستمرت حتى يومنا هذا، فقد تميزت بتنامي دور المؤسسات المانحة بشكل لم يعد الاستغناء عنها كممول رئيسي ممكناً، سواءً من قبل قطاع العمل الاستشاري أو القطاعات الاقتصادية الأخرى. وحيث أننا لسنا هنا بصدد تقييم دور المؤسسات المانحة أو القطاعات الاقتصادية الاخرى فسوف نقتصر تركيزنا على مؤسسات الاستشارات الإدارية ومراكز الابحاث والمستشارين. ونستطيع القول أن هذه المرحلة قد تميزت بالمميزات الرئيسية التالية:-
أولاً: الازدياد الكبير في أعداد المستشاريين والشركات الاستشارية بشكل يفوق حاجة السوق الفلسطيني، وقد أسهم في ذلك الدخول التجاري الربحي الغير مبرر أو مسبوق للجامعات وأعضاء الهيئات التدريسية فيها. ويعود هذا الازدياد في نظرنا الى المغريات التي أصبحت توفرها المؤسسات المانحة لاستقطاب العدد الأكبر من المستشارين وعدم قناعة الكثيرين منهم بالدخل الذي يحققونه من أعمالهم كأعضاء في الهيئات التدريسية أو محاضرين مقارنة بما يحققه بعض الخريجين المبدعين والمحظوظين الذين تمكنوا من شق طريقهم ووجدوا فرصتهم في المجالات غير الأكاديمية، وسيل الدعم والتمويل الذي توفره الدول والمؤسسات الدولية المانحة.
ثانياً: التدني الواضح في مستوى جودة الخدمات الاستشارية المقدمة والتكرار في البرامج والمواضيع وعدم القدرة على التجديد ومواكبة الجديد، بحيث يلحظ المراقب لهذا القطاع التكرار الغير مبرر للكثير من المشاريع الاستشارية والدراسات التي تم تنفيذها في سنوات سابقه ويتم طرحها وتنفيذها مرة أخرى لنفس الجهة المستفيدة دون اعتبار او تنفيذ ما خلصت اليه الدراسات والمقترحات في الدراسات التي تمت سابقاً.
ثالثاً: الزيادة الكبيرة في حجم التمويل لهذا القطاع على حساب القطاعات الأخرى التي تعتبر في أمس الحاجة للدعم والتمويل كالصناعة والزراعة والمشاريع الصغيرة بمجالاتها المختلفة، ولا ينبغي النظر الى حجم الزيادة في حجم الاموال الممنوحة لقطاع الاستشارات والدراسات على أنه تطوير لهذا القطاع، بل على العكس من ذلك نجد ان النسبة الكبرى من الاموال الممنوحة لقطاع الاستشارات وبرامج تنمية القدرات يتم صرفها على الخبراء والشركات القادمة الينا من نفس الدول المانحة!
رابعاً: غياب أي مبادرات هادفه الى تنظيم هذا القطاع الحيوي والمهم، بحيث يتم تنظيم المؤسسات والشركات الاستشارية، والمستشارين، والارتقاء بمستويات الأداء بشكل يضمن تعظيم العائد على مجتمعنا واقتصادنا الوطني.
خامساً: المبالغة في توجيه العديد من المشاريع والدراسات الى وجهات لا تشكل أولوية لمجتمعنا الفلسطيني كمجالات تعزيز دور المرأة وتمكينها وبعض البرامج الموجهة للشباب بحيث أصبح جلياً وواضحاً ان وراء هذا التوجيه والانفاق أهداف أقل ما يمكن القول عنها أنها تساهم في تفكيك المجتمع وتغيير هويته التي تميز بها على مدى العصور.
ومن هنا يصبح لزاماً على القائمين على هذا القطاع المهم والعاملين فيه اعادة النظر في مسيرتهم وطريقة عملهم بشكل يحافظ على هيبته ويعظم دوره ويبعده عن التأثر بالسياسة وتعقيداتها وشروط الدول والمؤسسات المانحة غير العادلة لمستشارينا وقضيتنا في معظم الأحيان من خلال معاودة إحياء وتفعيل اتحاد الشركات الاستشارية الفلسطينية – مستشار ، الذي تم إنشاؤه قبل حوالي العشر سنوات تحت مظلة الاتحاد العام للصناعات الفلسطينية، بحيث تكون الأولويه الاولى لهذا الاتحاد اعتماد وتصنيف الشركات الاستشارية والمستشارين وتحديد مستويات رسوم الخدمات الاستشارية، وبمعنى أدق العمل على تطوير دليل شامل للاستشارات الإدارية يعالج قواعد العمل في مجال الاستشارات الادارية ويحدد معايير الجوده لهذا الذراع المهم الذي يعتبر أحد أهم مقومات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في فلسطين.