شبكة قدس الإخبارية

الشهيد عبدالرحمن.. الثواني التي لم تنته بعد!

شيراز ماضي

بيت لحم - خاص قُدس الإخبارية: "مستحيل أنساه، مستحيل، عبد الرحمن صارله شهرين مستشهد، بس لسا ناره في قلبي، يعني الصبح لما اصحيهم على المدرسة أو ألبسهم اواعيهم، وكمان لما يروحوا من المدرسة بكون واقفة عند البوابة بستنى يدخل مع اخوته واولاد اعمامه، ابني هاد قطعة مني ما بنساه". تقول والدة الشهيد عبد الرحمن عبيد الله من مخيم عايدة والدموع تذرف من عينيها كالنهر الجاري، وقلبها يعتصر ألماً على فراق فلذة كبدها.

عبد الرحمن عبدالله (13 عاما) مثل غيره من الأطفال الفلسطينيين المثقلين بهموم الكبار، لكنه يزيد عنهم بأنه عاش في مخيم عايدة المنكوب، ذاك المخيم الذي نما عدد سكانه بينما لم تنمُ مساحته متراً مربعاً واحداً، فيما يحيط به الجدار الفاصل والأبراج والعسكرية والقناصة، هنا ترعرع عبدالرحمن منتقلا من مدرسته لمخيماته الصيفية لمركز لاجئ في محاولة للتخفيف من ضغط الحياة في المخيم.

تعلق قلب عبد الرحمن بالمخيم، لدرجة أنه كان يرفض مغاردته لزيارة أقاربه في منطقة الدوحة القريبة، ويقول لأمه، "يما ما بدي أروح على الدوحة، بدي أضل بالمخيم ألعب مع أصحابي وأولاد أعمامي". فقد كان يرى في المخيم الحياة الجميلة بين الأهل والأصدقاء على الرغم من كل ما يحيط من جميع المخاطر المحيطة به.

لعب عبد الرحمن بين أزقة المخيم التي تشبعت برائحة الغاز المسيل للدموع، والتي تأبى الخروج من الزقاق لصعوبة دخول الهواء إليها، وتنقل من بيته إلى المدرسة وإلى مركز لاجئ أمام أعين القناصة المنتشرين داخل الأبراج العسكرية دون أن يعلم أن نهاية حياته ستكتب برصاصة أحدهم.

وعاش عبد الرحمن حياته الهادئة مع أسرة بسيطة في بيت صغير، كغيرها من العائلات التي تسكن المخيم، فغرفته التي ينام بها مع أخوه لا يتجاوز عرضها المترين، وتحتوي على سرير بطابقين له ولأخيه، كما يصفه والداه بأنه الابن البار المطيع وطيب القلب المحبوب بين الجميع.

هذا الهدوء وتلك البساطة استمرت حتى الساعات الأخيرة قبل أن يباغت رصاص الاحتلال الطفل وعائلته، وتقول والدته، إنها وخلال إعدادها طعام الغداء في اليوم السابق لاستشهاده، حضر عبدالرحمن إلى المطبخ ووقف لجوارها ونظر في عيونها وابتسم، ثم طبع قبلة طويلة على خدها وخرج صامتا من المطبخ.

وفي اليوم التالي وقبل ساعات من استشهاده، حضرت شقيقة عبد الرحمن تُري أمها صورة حذيفة سلمان الذي استشهد في طولكرم، وقالت لها: "يما شهيد طولكرم بشبه عبد الرحمن"، أجابت الأم بفزع: "فال الله ولا فالك "!

[caption id="attachment_81668" align="aligncenter" width="600"]والدة الشهيد عبدالرحمن وشقيقته - تصوير محمد وليد والدة الشهيد عبدالرحمن وشقيقتها - تصوير محمد وليد[/caption]

وتضيف والدة عبدالرحمن، إن ابنها عاد إلى البيت بعد انتهاء دوامه المدرسي، ليجدها في المطبخ تعد وجبة الغداء، فطلبت من عبد الرحمن شراء بعض الحاجيات لإكمال إعداد الطعام، فسألها عبد الرحمن: "شو غدانا اليوم يمّا؟"، فأجابته: "مقلوبة"، فرد عبد الرحمن "يا سلام، مقلوبة!".

أحضر عبد الرحمن الحاجيات لأمه لإكمال "المقلوبة"، وقال لأبيه: "ثواني يابا وراجع، بس بدي أشوف صاحبي". تجول الصديقان في شوارع المخيم وصولا إلى مدخله مقابل البرج العسكري، هناك قابله شقيقه وصديق آخر وطلبا منه العودة للبيت، ولكن عبد الرحمن أجاب: "بس ثواني".

تلك الثواني كانت كفيلة بأن يتخذ القناص الموجود في البرج العسكري قراره بتحضير بندقيته وملئها بالرصاص القاتل، والتصويب تجاه قلب عبد الرحمن وإطلاق رصاصة عليه، نقل إثرها الطفل إلى مستشفى بيت جالا الحكومي بسيارة خاصة لعدم وجود إسعاف في المنطقة التي لم تكن تشهد مواجهات في تلك اللحظات.

[caption id="attachment_81669" align="aligncenter" width="600"]من موقع استشهاد عبدالرحمن - تصوير محمد وليد من موقع استشهاد عبدالرحمن - تصوير محمد وليد[/caption]

في المنزل طالت الثواني التي تحدث عنها عبدالرحمن، وانتاب العائلة قلقا شديدا تجاه ذلك، وفجأة دُق الباب وأًبلغت العائلة بإصابة عبد الرحمن لتتوجه على عجل إلى المستشفى بهدف الاطمئنان عليه، لكن الرصاصة التي كانت قد اخترقت قلبه الندي لم تمنح العائلة الوقت لرؤيته، ليعلن عن ارتقاء أول شهيد في محافظة بيت لحم خلال الانتفاضة الشعبية، وفي جيبه علبة البسكويت التي اشتراها ولم يتمها.

وشيع عبدالرحمن في جنازة مهيبة خرجت من أمام مستشفى بيت جالا الحكومي متوجهة لمخيم عايدة، حيث ألقى عليه أهله نظرة الوداع الأخيرة، ومن ثم جابت الجنازة أزقة المخيم الذي تربى فيه محمولاً على الأكتاف، ليترك مسكه الفوّاح بين حاراته.

[caption id="attachment_81670" align="aligncenter" width="600"]تشييع الشهيد عبدالرحمن - تصوير محمد وليد تشييع الشهيد عبدالرحمن - تصوير محمد وليد[/caption]

86 يوما مرت على تشييع عبدالرحمن، إلا أن أقاربه الصغار مازالوا لا ينامون إلا وصورته بجانب رؤوسهم، يقولون: "هيك عبد الرحمن كان ينيمنا لما نروح عندهم"! كيف لا وهو الطفل الحنون على الجميع صغاراً وكباراً".

بعد استشهاده بعدة أيام حضر أستاذه في المدرسة إلى بيته حاملاً معه ورقة اختباره في مادة الجغرافيا، وسلمها لعائلته، كان عبد الرحمن حاصلاً على علامة كاملة في الاختبار، فعبد الرحمن كان طالباً مجتهداً وذكياً ومحبوباً في مدرسته.

[caption id="attachment_81671" align="aligncenter" width="600"]الشهيد عبدالرحمن - تصوير محمد وليد الشهيد عبدالرحمن - تصوير محمد وليد[/caption]