يعتبر الفلسطينيون من أكثر شعوب العالم ممارسة للمقاومة الشعبية في التاريخ الحديث؛ فمنذ بداية الانتداب البريطاني ثم الاستعمار الإسرائيلي القائم حتى الآن؛ والفلسطينيون يمارسون شتى أساليب المقاومة الشعبية سعيا نحو حريتهم واستعادة أرضهم السليبة. ويجدر بنا الإشارة إلى أن التخلي عن (أو إهمال) بعض الوسائل الشعبية في المقاومة يُضعف تفاعل ومشاركة الغالبية العظمى من أفراد الشعب. وهذا ما لا يرغبه أي حالم وساع لتحرير الأرض الفلسطينية.
لكن، رجوعا في الذاكرة إلى الانتفاضتين السابقتين، فقد شهدنا أن الفلسطينيين قد تحولوا مباشرة إلى المسار العسكري بعد اتفاقية أوسلو – التي أفضت إلى إنهاء الانتفاضة الشعبية الأولى وقيام السلطة الفلسطينية –، كما شاهدنا كيف تحولت الانتفاضة الثانية منذ بدايتها بسرعة إلى انتفاضة مسلحة. أيضا، منذ استلام حركة حماس السلطة في قطاع غزة على إثر انتخابات عام 2006، رأينا تركيز الفلسطينيين على تطوير استخدامهم للسلاح لمواكبة آلة الحرب الإسرائيلية الهمجية في الحروب الثلاثة الأخيرة على غزة.
أما بالنسبة لهذه الانتفاضة، فلن يكون تركيز هذا المقال حول ما يطرحه المحللون السياسيون من إمكانية أن تتحول إلى النهج المسلح، لأن هذا التحول قد بدأ بالفعل في نظر الكاتب. لكن، هذا المقال يأتي محاولة للبحث في إجابة السؤال: "لماذا سرعان ما تتحول انتفاضاتنا من النهج الشعبي إلى العسكري؟"
بشكل عام، الإجابة على هذا السؤال ترتكز إلى عدة نواحي اجتماعية ونفسية وسياسية لدى جميع الأطراف المشتركة في المشهد الفلسطيني. هذه الأطراف تشمل كلاً من المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي بكافة أطيافهما، إضافة إلى المجتمع الإقليمي والدولي. وبعد التحليل والبحث، تطفو الأسباب السبع التالية على السطح، وقد تم تقسيمها إلى أسباب داخلية وخارجية.
أولا: الأسباب الداخلية:
- العرب يحبون "الأكشن"، ويولون قيمة عالية للشجاعة، ويرون أن العمل المسلح أكثر شجاعة من العمل السلمي.
في الواقع، العرب بتكوينهم الاجتماعي والنفسي يمتلكون العديد من الصفات التي تميزهم عن غيرهم من الشعوب؛ وعلى رأسها الشجاعة والمروءة والغيرة وإكرام الضيف. وبطبيعة الحال، فإن الشعب الفلسطيني بكافة مكوناته هو عربي أصيل.
لكن، هل العمل المسلح أكثر شجاعة من العمل السلمي؟ بالتأكيد إن اقتحام المستوطنات الإسرائيلية بأسلحة عادية، أو تفخيخ الجسد بمتفجرات داخل حافلة، أو حتى محاولة طعن جندي مدجج بالسلاح بسكين يتطلب شجاعة منقطعة النظير؛ خصوصا إذا ما تم مقارنتها بزراعة الليمون والتفاح. والواقع يُظهر لنا أن تفاعل الشارع الفلسطيني مع العمليات المسلحة (مثل عمليتي "إيتمار" و"عتنيئل") يفوق بدرجة كبيرة التفاعل مع باقي الأحداث الأخرى الجارية مؤخرا.
- ثقة الفلسطينيين بالخيار العسكري ومن يمثلونه أكبر من ثقتهم بالخيار السلمي ورجالاته.
هذا الزعم يحتاج إلى معيار دقيق قابل للاعتماد عليه، ولعل الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006 هي المعيار الأفضل لتحديد مدى تفضيل تيار بعينه على منافسيه في الساحة الفلسطينية، نظرا لاشتماله على معظم الفصائل الفلسطينية وحصده أكبر نسبة مشاركة للشعب الفلسطيني في أكبر حدث ديموقراطي في التاريخ الفلسطيني الحديث.
لقد جاءت نتائج هذه الانتخابات مؤكدة على صحة هذا المقولة، حيث حصلت حركة حماس – التي قدمت نفسها كممثل بارز للمقاومة - على غالبية أصوات الناخبين. حينها اختار الشعب حركة حماس بالرغم من ضعف تجربتها السياسية قبل الانتخابات؛ وذلك يعود بدرجة كبيرة إلى عدم ثقة الفلسطينيين بسياسات واستراتيجيات قادة التيار السلمي المتمثل بقيادة السلطة الوطنية الفلسطينية آنذاك.
- التطور الهائل في نوعية الأسلحة والأساليب لدى المقاومة الفلسطينية.
في البداية، كان الشعب الفلسطيني أعزلا مجردا من الأسلحة الثقيلة، وقد كافح بالفعل بكافة الوسائل المدنية الممكنة بين يديه. بطبيعة الحال، كان الفلسطينيون حينها مقتنعون بجدوى ما يقومون به، لأن الخيارات لديهم كانت محدودة.
لكن، مع دوران عجلة الزمن فقد اختلف الحال، وأصبح لدى الفلسطينيين كتائب مقاتلة وأسلحة نوعية متطورة قادرة على ردع المحتل نسبيا. ولعل الأداء الذي قدمته الأجنحة المسلحة للفصائل الفلسطينية خلال الحروب الإسرائيلية الثلاث الأخيرة على قطاع غزة يثبت مدى التطور النوعي الذي وصل إليه الفلسطينيون.
هذا الواقع الجديد الذي تفرضه المقاومة الفلسطينية المسلحة شكل وعيا جديدا لدى الشعب بأنه أصبح بإمكانه نيل حقوقه وحريته بشكل أسرع عبر انتهاج الخيار العسكري أسلوبا استراتيجيا لمواجهة المحتل، خصوصا في ظل عقم أساليب النهج السلمي وعلى رأسها المفاوضات.
ثانيا: الأسباب الخارجية:
- غطرسة الاحتلال في مواجهة المقاومة السلمية؛ ورضوخه أمام المقاومة المسلحة.
كما ذُكر في المقدمة، فإن الشعب الفلسطيني يعتبر أحد أكثر شعوب العالم ممارسة للمقاومة المدنية أو الشعبية في التاريخ الحديث؛ ولعل إضراب عام 1936 – أطول إضراب في التاريخ الحديث – أكبر دليل على صدق هذا الادعاء. ولكن، في كل مرة ينتهج فيها الفلسطينيون أسلوبا سلميا في المقاومة، كان الاحتلال يقمعهم بكل عنف.
الذي يزيد من قناعة الفلسطينيين بالخيار المسلح على حساب الخيار السلمي هو أن الاحتلال يرضخ باستمرار أمام ضربات المقاومة المسلحة، ولعل صفقات تبادل الأسرى التي أبرمتها فصائل المقاومة منذ القرن الماضي ما زالت حاضرة في الأذهان. وفي المقابل، كان الاحتلال ولا زال يماطل في المفاوضات مع السلطة ويستمر في التمدد بشكل مريع في استيطانه في الضفة الغربية. هذا، مع مرور الزمن، أضحى سببا مباشرا في تحول جزء كبير من الفلسطينيين نحو الخيار المسلح.
- جبن المحتل الإسرائيلي رسخ قناعة لدى الفلسطينيين أن الخيار المسلح أسرع من السلمي في تحقيق الأهداف.
مؤخرا، امتلأت وسائل الإعلام المحلية والعالمية بمئات الصور والمشاهد التي تُظهر جنود الاحتلال قبل العامّة يهربون مذعورين من سكاكين فتيان لما ينبت الشعر على وجوههم. هذه المشاهد تثبت حقيقة العرب والفلسطينيين بأن الإسرائيلي أجبن من أن يصمد في مواجهتهم.
عمليات الطعن القليلة التي شاهدناها في الآونة الأخيرة أرعبت اليهود وجعلت الكثير منهم يفكرون جديا في الهجرة؛ بل إن بعضهم شرع بالفعل في مغادرة أرض الميعاد - أرض السمن والعسل!
هذا كله ساهم بالفعل في ترسيخ قناعة لدى الفلسطينيين بجدوى المقاومة المسلحة، فإذا كانت سكاكين المطبخ فعلت كل هذا الفعل في كيان المحتل الإسرائيلي، فكيف بالأسلحة الثقيلة والعمليات النوعية.
- كون الاحتلال الإسرائيلي مشروع إستيطاني إحلالي عنصري (غير محصور على المنفعة الاقتصادية) يُضعف من إيمان الفلسطينيين بجدوى المقاومة السلمية.
كما هو واضح من عنوان هذه النقطة، فإنه من الطبيعي أن يفقد الفلسطينيون الثقة جزئيا في جدوى المقاومة السلمية في تحرير أرضهم، حيث أن المسار السلمي لم ينجح فعليا في تحرير بلد من الاستعمار في التاريخ الحديث، إلا في حالات قليلة مثل الهند بالرغم من استخدام السلاح فيها أيضا.
هذا على الرغم من التباين الكبير بين الحالة الفلسطينية والحالات الأخرى؛ حيث أن سبب وجود المحتل الإسرائيلي على أرض فلسطين هو عقائدي في الأساس، فضلا عن أن ممارساته القمعية الإجرامية التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث، التي يهدف من خلالها إلى طرد السكان الأصليين وتوطين اليهود من جميع أنحاء العالم مكانهم.
هذا كله يزيد من قناعة الفلسطينيين في التحول إلى الخيار المسلح لدحر المحتل، إذ أن الأخير لن يقتنع من تلقاء نفسه بمغادرة الأرض الحلم بالنسبة له لأسباب عاطفية. إنه لن يخرج إلا مرغما تحت قوة السلاح كما تثبت لنا الأيام، ولنا في قطاع غزة وفي الجنوب اللبناني (وسيناء من ذي قبل) أوضح الأمثلة.
- عدم وجود ضغوط دولية أو إقليمية حقيقية لإنهاء الإنتهاكات الإسرائيلية المتكررة يعزز شعور الفلسطينيين بالوحدة مما يدفعهم نحو استخدام السلاح.
بالرغم من سنين النضال الفلسطيني الطويلة، لا يبدو أن الفلسطينيين قد حققوا شيئا يُذكر؛ ولعل أحد الأسباب يكمن في خذلان المجتمع الدولي لهم، وعدم تطبيقه الحد الأدنى من العقوبات على الجرائم الإسرائيلية بحقهم.
هذا بدوره أدى إلى فقدان الفلسطينيين الأمل في تحصيل مساعدة أيّ من الأطراف العالمية أو الإقليمية، مما يعزز لديهم الإيمان بصحة المثل العربي الشهير "ما حك جلدك مثل ظفرك، فتولّ أنت جميع أمرك!". ولقد رأينا في السنوات العشر الأخيرة أن هذا الإيمان قادهم الآن لامتلاك أسلحة وصواريخ فعالة جدا وقادرة على ردع المحتل وموازنة الرعب معه.
ختاما، قد تكون مساهمة هذه الوسائل منفردة ضعيفة في التأثير على المحصلة النهائية، ولكن بالتأكيد، فإن وجود هذه الأسباب مجتمعة يبين لنا حقيقة لماذا تتحول إنتفاضاتنا الشعبية إلى استخدام السلاح بسرعة.