دخلت الحرب على قطاع غزة يومها الـ20، استخدمت فيها قوات الاحتلال الصهيوني أطناناً من المتفجرات قاربت ما حملته القنبلة النووية التي استهدفت “هيروشيما” في اليابان وفقاً للمتحدث باسم الداخلية في قطاع غزة، لكنّ الفارق أنّ اليابان كانت دولة عظمى في حرب عالمية في مواجهة دولة عظمى أخرى أصبحت في ما بعد القطب الذي يحكم العالم، بينما قطاع غزة، هو قطاع صغير محاصر من كل الجهات، لا يمتلك أي مقومات حقيقية، ولا خط إمداد لا عسكري، ولا حتى إغاثي معيشي، ويواجه كياناً غاصباً تأخذ قوته العسكرية مكانها بأريحية ضمن القوى الأقوى عالميا.
لم تعد معركة المقاومة في قطاع غزة محصورة بمواجهة الاحتلال الصهيوني فقط، بل بمواجهة الدول الإمبريالية في العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة مروراً ببريطانيا وألمانيا وليس انتهاءً بالدول الأوروبية الأخرى بما فيها فرنسا التي تقترح إقامة “تحالف دولي” لمواجهة المقاومة الفلسطينية وحلفائها، إذاً هي حرب دولية بقيادة الولايات المتحدة، تُشن على قطاع غزة المُحاصر، وتحمي الكيان الصهيوني الهش.
محور الكون
لطالما كان يتندر العديد من المشككين حين كانت المقاومة الفلسطينية تجري مناوراتها وتدريباتها وتعكس جزءاً من خططها التطويرية، بل وحتى التندر على إعلاناتها عن بعض عمليات التطوير والتحديث أو قدرات التصنيع ونخبوية واحترافية مقاوميها، خصوصاً في قطاع غزة الذي عملت فيه المقاومة لسنوات ضمن ما سُمي بـ”الإعداد والتجهيز” لمواجهة حقيقية مع الاحتلال.
كان المنتقدون بل والمتندرون يردون علينا دائما –نحن أنصار ومحبّي وجمهور المقاومة- بأنّنا نُشعرهم وكأنّ غزة هي “محور الكون” وفي الواقع غزة ليست في حسابات أحد بالعالم، ولربما أنّ جزءاً من قادة العالم لا يعرفون أين تقع أصلا، ولا تقع مقاومة قطاع غزة على رادار أحد، وأنّ كل هذه ما هي إلا بروباغندا تعشعش في عقولنا فقط.
اليوم الواقع مختلف تماما، وإيماننا كان في محله، المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة لم تكن تلهو، ولا تخلق بروباغندا، ولا تعيش ولا تُعيّش شعبنا الأوهام، بل هي أعدّت واستعدّت وجهّزت وخطّطت ودرّبت ودبّرت وناورت حتى وجّهت الضربة الأكبر في تاريخ الكيان الصهيوني لهذا المحتل وجنوده في عبور السابع من أكتوبر.
فرضت المقاومة الفلسطينية نفسها نداً ورقماً على أجندة كل العالم، ضاربة بأعقاب البنادق كل طاولات المجالس الدولية، قارعة جدران العالم وليس فقط جدران الخزان، لتقول للعالم أجمع، هنا شعب لن يقبل الموت سدى، ولن يقبل أن يبقى يئن تحت الحصار والقتل البطيء، وأن يشاهد قضيته يتمّ تصفيها تدريجيا، وتُنتهك مقدساته، ويُحتجز أسراه لعقود من الزمن دون أن يُحرك العالم ساكنا، قلبت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة الطاولة على رأس العالم بضربتها الاستراتيجية، لتثبيت أنّ غزة اليوم هي “محور العالم”.
كسر تابوهات القوة العالمية
حالة الاستنفار العالمي دفاعاً عن الكيان الصهيوني بقدر ما هي تعبير عن الانحياز العالمي لطفلتهم المدللة “إسرائيل” والالتزام الإمبريالي بدعم قاعدتهم المتقدمة في الشرق الأوسط، وحماية استثمار قوى الاستكبار العالمي لعقود في هذا الكيان، إلا أنّها أيضاً تعبير عن حالة الفزع لدى هذه الدول التي كانت إلى حد قريب هي دول “عظمى” لا ينافسها أحد، تتحكم بالعالم والأنظمة ومصير الشعوب.
هذا الفزع الذي يُسيطر على الولايات المتحدة وحلفائها مرتبط بدرجة أساسية بأنّ ما جرى في قطاع غزة، هو جزء من حالة المقاومة العالمية لهيمنة الولايات المتحدة وقطبها الواحد وسيطرتها على مجريات الأمور، فحالة الرفض العالمي والتوجه المتصاعد نحو عالم متعدد القطبية يرفض هيمنة الولايات المتحدة ويغيّر خارطة الدول العظمى، باتت تشق طريقها نحو تشكيل جبهات رفض عالمية بدأت تنجح في كسر التابو الذي هيمن على العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
تدير المقاومة خطابها السياسي، وفعلها الميداني، وسلوكها الإعلامي، ووتيرة نيرانها، وتعاملها مع ملف الرهائن باقتدار عالي، يُثبت بما يلا يدع مجالاً لأي شك أنّ منظومات القيادة والسيطرة ما زالت متماسكة وقد أعدّت نفسها جيداً للتعامل مع سيناريوهات العدوان الإجرامي الصهيوني.
بحث الاحتلال عن إنجازات على أنقاض البيوت المدمرة وآلاف الشهداء الذين لم يعد حصرهم ممكناً بسبب المئات الذين ما زالوا تحت الأنقاض، هذا المشهد الذي يرسمه الاحتلال بأطنان المتفجرات وتغيير جغرافيا قطاع غزة ومحو أحياء كاملة، هو انتقام ممنهج من قطاع غزة، من أهله، من مجتمعه، لأنّ الاحتلال يرى في المجتمع ككل شريكاً للمقاومة، التي لم تكن لتنجح في بناء منظومات القوة والبنية التحتية التي تسمح بالمناورة اليوم، لولا وجود مجتمع مقاوم متماسك ومؤمن بحتمية الانتصار.
غزة لن تُهزم ولن تستسلم
حتى كتابة هذه السطور، من تحت أزيز الطائرات وأصوات الانفجارات التي لا تتوقف في قطاع غزة، ورغم رائحة الموت التي تعمّ كل شوارع قطاع غزة، والركام المتناثر في كل الأحياء من شمال القطاع لجنوبه، والألم الذي أصاب كل أسرة، ومسح عائلات بأكملها من السجل المدني، وبالرغم من كل ما لا يمكن وصفه بالكلمات من مشاعر الألم والقهر، إلا أنّ غزة صامدة، ومتماسكة، ومجتمعها الذي صمد في وجه عشرات الحملات العسكرية، يصمد اليوم من جديد وينهض كل يوم نافضاً غبار الدمار، ليبحث عن تمسّكه بالحياة وتمسّكه بحقّه في انتزاعها.
نعم، المقاومة الفلسطينية هي جزء من حالة الرفض العالمي، وهي اليوم تواجه المنظومة العالمية المهيمنة، وتصمد في وجه هذا العالم الظالم، تقاوم، وتطلق صواريخها التي لا تستهدف قلب الكيان الصهيوني فقط، بل قلب العالم الظالم مزدوج المعايير الذي يعتبر ما يجري في أوكرانيا مقاومة شرعية، وما يجري في فلسطين إرهاب، لأنّ الإرهاب بمعاييرهم هو كل ما يواجه آلة الهيمنة الإمبريالية.
الانتقام من الحاضنة والمجتمع الغزاوي
الاحتلال، بأطنان الصواريخ والمتفجرات أمريكية الصنع المسنودة بجسر إمداد جوي لا ينقطع من الذخيرة والإمكانيات اللوجستية، مسنوداً بأعتى منظومات التجسس البريطانية والأمريكية، إضافة لإمكانياتها التكنولوجية الهائلة أصلا، فشل في تسجيل أي نصر حقيقي في استهداف مقدّرات المقاومة وقيادتها –وإن كان استشهاد القادة لا يضيرها بشيء- وهذا ليس قول شعارات لأنّ المقاومة عكسته في الميدان فعلا.
يحاول الاحتلال، منذ بداية العدوان، تهجير سكان محافظتي الشمال وغزة إلى المحافظات الوسطى والجنوبية، ولإنجاح هذه المساعي لم يتوانَ عن ممارسة كل أشكال القصف والتدمير والأحزمة النارية في أكثر الأحياء والمخيّمات اكتظاظا، ليدفع السكان للنزوح، لكنّ الواقع مغاير تماما، فالآلاف من سكان هذه المحافظات لا زالوا في منازلهم، وبجولة سريعة في مخيّمات جباليا والشاطئ والشيخ رضوان والزيتون والشجاعية وحي الدرج.. لا زالت الشوارع ممتلئة بالصامدين المصممين على التمسّك بمنازلهم ومواجهة مصيرهم بشجاعة، بل ويشهد كل يوم عودة لدفعات من النازحين إلى منازلهم في غزة وشمالها، رافضين تسهيل المهمة على الاحتلال الذي يسعى لتحقيق مكاسب عملياتية عبر حملات التهجير الممنهجة، لينجح في تحييد المقاومة في هذه المناطق.
حسابات العملية البرية تتعقد
يتردد الاحتلال كثيراً في عمليته البرية وبدأت خلافات مجلس الحرب تتسع وتطفو إلى السطح، وهذا التردد يحمل في طياته الخوف من ثمن مثل هذه المغامرة، التي صوّرها قادة العدو في بدايات العدوان وكأنّها الخطوة المكمّلة لحرب هدفها “القضاء على المقاومة” وكأنّ المقاومة هي مجموعة من الأفراد وليست فكرة ونهجاً سيبقى قائماً طالما بقي هذا الكيان قائماً وجاثماً على أرضنا.
يعرف الاحتلال أكثر من أي طرف آخر، أنّ أي مناورة برية حتى لو كانت على أطراف قطاع غزة، لن تكون نزهة، وأنّ المقاومة في القطاع أعدّت نفسها جيداً ومنذ سنوات طويلة لمثل هذا السيناريو، وأنّ تمسّك الحاضنة الشعبية بعدم الرحيل من منازلهم في غزة وشمالها سيجعل من هذه المناورة البرية مقتلة لجيش الاحتلال وآلياته، وسيمنح المقاومة استكمالا لمشهد النصر الذي حقّقته في السابع من أكتوبر.
بالرغم من اندفاعة قادة جيش الاحتلال للدخول إلى القطاع بحثاً عن ترميم لصورة “الجيش الذي لا يُقهر” إلا أنّ نتنياهو ليس زعيماً عاطفياً ويأخذ الأمور بروية أكثر، لأنّه لا ينظر للأمر من منطلق عملياتي فقط، بل هو ينظر لمستقبله السياسي الذي داسته أقدام مقاتلي نخبة المقاومة الفلسطينية في غلاف غزة، ويبحث عن قبلة حياة لهذا المستقبل، فسيد زعماء “إسرائيل” لا يريد أن يغادر الحكم بوصمة عار كبرى، ولا يثق بقادة جيشه ولا مجلس حربه، ويوسّع من مشاوراته مع قادة الأركان السابقين، وخبراء الحرب في الكيان مثل الجنرال المتقاعد “يستحاق بريك” الذي حسم الجدل بأنّ الجيش ليس جاهزاً للدخول إلى القطاع، ولطالما حذّر من ضعف جاهزية الجيش للدخول في مواجهات برية واسعة.
تتعقد حسابات الاحتلال مع تحركات محور المقاومة، ومناورات حزب الله المستمرة على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، والضربات المتصاعدة للمقاومة العراقية للقواعد الأمريكية التي باتت تدفع الولايات المتحدة للتفكير بشكل أوسع، فما على المحك اليوم ليس فقط جنود الاحتلال، بل جنودها وقواعدها في الشرق الأوسط، والشعور المتصاعد بأنّ الانخراط الفعلي لقوى محور المقاومة سيتصاعد ويكون أكثر تأثيراً مع انطلاق أي عملية برية في قطاع غزة، يجعل من اتخاذ القرار بالذهاب لهذه المناورة قراراً غير يسير، وبالرغم من أنّ الإحجام عن تنفيذ العملية البرية مستبعدا، إلا أنّ حجمها وشكلها ومدى فعالياتها يتغير بل ويتقلص إرتباطاً بتوسع المتغيرات المستمر في المنطقة، وفي ساحة القتال بغزة التي ما زالت تنفّذ ضربات قوية أعطت نموذجاً مُصغّراً حول ما أُعدّ للقوات البرية، على غرار ما جرى في كمين “كوسفيم” شرق خانيونس الذي استهدف قوة استطلاعية صهيونية بالقذائف المُوجهة موقعاً عناصر القوة بين قتيل وجريح.