كتب: يحيى قاعود
أدت السياسات والممارسات القمعية لقوات الاحتلال في القدس ومحافظات الضفة الغربية، والمستوطنين من جهة أخرى في مدينة القدس ومحافظات الضفة الغربية بشكل عام إلى اندلاع مواجهات شعبية لمقاومة هذه السياسات والمخططات الإسرائيلية وخاصة الموجهة ضد القدس، وقد توسعت تلك المواجهات لتشمل كافة مناطق أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية وأراضي عام 1948م، هذا بالإضافة إلى انسداد أفق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
يتعرض الفلسطينيون إلى شتى أنواع الاضطهاد والعنصرية الإسرائيلية من قبل قوات الاحتلال والمستوطنين، وقد ازدادت شراسة تلك الممارسات في القدس ومحافظات الضفة الغربية، فقد كثف المستوطنون من اقتحاماتهم للمسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال بأعداد غير مسبوقة واعتدائهم على المرابطات والمرابطين في المسجد الأقصى، وجاءت شرارة الانطلاقة في عملية طعن في البلدة القديمة نفذها مهند حلبي، وقد كتب على صفحته في الفيس بوك قبل استشهاده 3 تشرين أول 2015 قائلا: "حسب ما أرى الانتفاضة الثالثة قد انطلقت"، ومن ثم خروج المواطنين منتفضين بمواجهات شعبية ضد الاحتلال انطلقت من القدس إلى كافة محافظات السلطة الوطنية وأراضي عام 1948م، وعليه تطرح الورقة سؤال رئيس، وهو: ما هي تداعيات الانتفاضة الشعبية الدائرة حالياً في فلسطين؟
- انتفاضة أم هبه جماهيرية
تختلف اتجاهات الباحثين والسياسيين حول تسمية الأحداث الجارية في فلسطين والتي بدأت في القدس ثم تبعتها كافة محافظات الوطن والأراضي المحتلة عام 1948م، لذا نطرح التساؤل التالي: كيف وقعت الانتفاضة؟ وما هي طبيعتها؟
إن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني هو صراعاً وجودياً، ونظرية الصراع الدولي theory of international conflict لها أكثر من تسعة عشر مدخلاً. ويعد في شكل من أشكاله صراعاً على تسمية الأشياء فنحن نسمى تلك الأرض الواقعة بين سوريا والأردن ولبنان ومصر "فلسطين"، بينما يسميها الصهاينة "إسرائيل"، ونسمى نحن سكانها "الفلسطينيون" ويسمونهم هم "سكان المناطق" إذ أنه لا وجود لفلسطين ولا الفلسطينيين في المصطلح الصهيوني. ونحن نسمى الوجود الصهيوني في فلسطين "استعمار استيطاني احلالي"، ويسمونه هم "عودة لأرض الميعاد"([i]). وعلى طبيعة الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني يمكن تحديد العلاقة ما بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، الفلسطينيون يدافعون عن الأرض والمقدسات والنفس البشرية، أما إسرائيل فهي تحمي بقوتها المادية سيطرتها واحتلالها للأرضي الفلسطينية. وقبل وصف وتحديد ما يحدث الآن في القدس والمحافظات الفلسطينية حالياً، لابد من التذكير بأن القضية الفلسطينية منذ بدايتها عام 1917م اشتملت على انتفاضات وهبات جماهيرية عديدة، ومنذ انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965م ضمت في مواجهتها للاحتلال عدة انتفاضات وهبات جماهيرية، كان الهدف الجوهري للثورة ضد الاحتلال وما شملته من مواجهات وانتفاضات وهبات جماهيرية هو تحرير الأرض. وعندما نبحث عن مصطلح الانتفاضة وما يميزه عن الهبة الجماهيرية نجد الانتفاضة لها خصوصيتها، فهي تشمل كافة المدن والمناطق وتكون مطلبية. أما الهبات الجماهيرية فهي حالة تتشكل حول سياسة معينة وتنتهي في أيام ولا تنتشر في كافة المناطق والمدن، مع العلم بأن المناطق الأخرى تتأثر بها لكنها لا تكون بقوة الانتفاضة وصفتها الأساسية وهي الاستمرارية حتى تحقيق أهدافها الأساسية. إن كلمة "انتفاضة" مناسبة لوصف الحالة الفلسطينية الحالية فهي مستمرة منذ أكثر من شهر. وقد وصف عبد الوهاب المسيري كلمة "الانتفاضة" في الانتفاضة الشعبية عام 1987م قائلا: "الانتفاضة كلمة مشتقة من فعل "نفض" مثل "نفض الثوب" يعنى حركة ليزول عنه الغبار أو نحوه، ولعل هذا وصف دقيق للاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي يضرب جذوراً في تربتنا الجغرافية والتاريخية فهو مثل الغبار الذي علق بالثوب الفلسطيني ولم يمس الجوهر([ii]).
فقد اندلعت الانتفاضة في القدس ثم اتسعت لتشمل كل مناطق ومحافظات فلسطين، وهنا نكون أمام انتفاضة شعبية مستمرة لأكثر من شهر، وخضعت لكافة القياسات والمواصفات السياسية والاجتماعية لحدوثها، وهناك نقطة أخرى أود التذكير بها وهي أن غالبية الانتفاضات والهبات الجماهيرية انطلقت من العاصمة الفلسطينية "القدس"، ولنفس الأسباب الاحتلالية مع تباين بسيط في تلك الأسباب، أما الانتفاضات والهبات الجماهيرية الأخرى التي انطلقت من المحافظات الفلسطينية كانت شرارتها الأولى دفاعاً عن القدس والمقدسات أيضاً. ولكن شرارة الانتفاضة لا تعنى الأسباب التي أدت لحدوثها، فالشرارة تعني نقطة الانطلاق، أما الأسباب فهي الدافع والمحرك الرئيس لحدوثها. ويمكن تحديد الأسباب الرئيسية لاندلاع انتفاضة القدس الثانية كما يلي:
- القدس بين واقع مرير ومفاوضات عقيمة.
منذ احتلال إسرائيل لشرق القدس عام 1967م، كانت المدينة محل سلسلة لا نهائية من إجراءات الضم والمصادرات والتهويد. وموضع قرارات تعسفية فظة شملت الإنسان والمقدسات ومختلف مناحي الحياة، الأمر الذي جعل المدينة في بؤرة عين عاصفة هوجاء لا تتوقف([iii]). وقد هبت هذه العاصفة لتقف في وجه قوات الاحتلال والمستوطنين بعد زيادة وتيرة الاعتداءات على الأماكن المقدسة في فلسطين كالقدس والحرم الإبراهيمي، ففي بداية تشرين الأول 2015م سجلت اقتحامات المستوطنون لساحات المسجد الأقصى رقماً قياسياً بوصول عدد المقتحمين إلى 357 شخص في يوم واحد، وهذا الرقم غير مسبوق([iv]). هذا بالإضافة إلى الاقتحامات المتكررة التي زادت وتيرتها في الأعوام الأخيرة التي تسعى لفرض مخططات التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، واعتداء قوات الاحتلال على المرابطين في المسجد الأقصى من الرجال والنساء لحماية المسجد من هؤلاء المستوطنون الذين أقدموا قبل ذلك على حرق المسجد الأقصى عام 1969م. أما بالنسبة للمفاوضات فهي تسير في طريق مسدود منذ أن جمدها الرئيس الفلسطيني محمود عباس قبل ثلاثة أعوام لتعنت إسرائيل، وكان شرط القيادة الفلسطينية لاستمرار المفاوضات هو تقديم توضيحات إسرائيلية حول قضايا الحل النهائي ووقف البناء الاستيطاني.
- عنصرية المستوطنون في القدس والضفة الغربية
المستوطنون يمارسون أبشع جرائم التطهير العرقي بحق المقدسيين وأبناء الأحياء والقرى في الضفة الغربية وبحماية كاملة من الحكومة الإسرائيلية التي ترعى وتدعم الإرهاب وتزيد منه من خلال دعمها للاستيطان والمستوطنين وتسليحهم وحمايتهم أثناء ارتكاب جرائمهم في المواطنين الفلسطينيين. فقد أحرق الطفل محمد أبو خضير في القدس على يد ثلاثة من المستوطنين في تموز 2014م، وكذلك قام المستوطنون في نهاية شهر تمور 2015 بإحراق عائلة دوابشة، والتي لم يتبقى منها سوى الطفل أحمد دوابشة وهو يرقد في المستشفى. وسجل في الصحف والمواقع الإعلامية المئات من الاعتداءات على ممتلكات السكان ومزارعهم من قبل عصابات المستوطنين في أكثر من حي ومنطقة سكنية.
- استمرار الاستيطان في الضفة الغربية ومصادرة الأراضي.
إن حكومات اليمين المتطرف في إسرائيل في الأعوام الأخيرة تدعم بشكل مستمر البناء الاستيطاني في القدس والضفة الغربية، وتصادر أراضي المواطنين للبناء الاستيطاني ولاستكمال بناء جدار الفصل العنصري، هذا بالإضافة إلى استمرار إقامة الحواجز التي تفصل بين المدن الفلسطينية في الضفة الغربية والتي تقيد حرية التنقل ما بين المدن الفلسطينية.
- استمرار اليمين المتطرف في الحكم وانعدام الأمل
الإسرائيليين يرغبون باستمرار الاعتداءات والعنصرية على الفلسطينيون وهم يؤكدون ذلك في الانتخابات الإسرائيلية باختيارهم للتطرف والإرهاب، وهذا يعني انعدم الأمل لدى المواطنين في الوصول إلى سلام عادل وإقامة الدولة الفلسطينية في ظل السياسات والمخططات الإسرائيلية، وكذلك ضرب إسرائيل بعرض الحائط كافة القرارات الدولية التي تؤكد على الحق الفلسطيني فيما تدعم القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية الرؤية الإسرائيلية بشكل دائم. هذا بالإضافة إلى الحصار المفروض على قطاع غزة من قبل الاحتلال الإسرائيلي واعتداءاته المتكررة على القطاع وحسب تقرير أممي كانت النتيجة تدمير 30% من البنية التحتية وبيوت المواطنين.
وفي أعقاب تراجع القضية الفلسطينية عربياً وإقليمياً ودولياً نظراً لأزمات دول الربيع العربي والاهتمام الدولي بها وبمصالحهم. فقد دعا الرئيس محمود عباس في خطابه الأخير بالأمم المتحدة في أيلول 2015 المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته في انهاء الاحتلال وحماية الشعب الفلسطيني، فيما أعلن بأن السلطة الوطنية الفلسطينية لن تلتزم بالاتفاقات الموقعة ما لم تلتزم إسرائيل بها، وهذا هو التناغم بين الاحتياجات الأساسية والمطالب السياسية لدى كل من القيادة السياسية والشعب. هذه الأسباب الرئيسية وغيرها كانت السبب الرئيسي في اندلاع المواجهات والانتفاضة الفلسطينية الثالثة، فالوعي الفلسطيني بما يحدث على الأرض حرك الشباب للدفاع عن أنفسهم وأرضهم في وجه الاحتلال. فهذه السياسات والإجراءات والقتل والتشريد لا يمكن أن تستمر دون ردة فعل، والتاريخ الإنساني يزخر بالتجارب السياسية لمقاومة الاستعمار الكولونيالي، فلا يوجد احتلال بلا مقاومة.
ما يميز القضية الفلسطينية بثورتها وانتفاضاتها عن غيرها من القضايا العالمية، هو أنها قضية ملتهبة منذ أن بدأت وحتى يومنا هذا لم تتوقف الانتفاضات وسبل مواجهة الاحتلال بكافة الطرق والوسائل المشروعة إن كانت مقاومة مسلحة أم سلمية، فمنذ بداية الاحتلال البريطاني على فلسطين عام 1917م وصناعة الدولة اليهودية عام 1948م إلى اليوم، لا تغيب الشمس عن فلسطين وإلا هناك مقاوم، أو أسير، أو شهيد، أو جريح، أو مفاوض، أو معارض يخرج في مسيرة، يواجهون الاحتلال بكل عزم وإصرار على مر تاريخ القضية الفلسطينية، جيل يسلم الراية للجيل الذي يليه، "يموت الكبار وتقوى راية الصغار بالوسائل الجديدة التي يبتدعونها" وليس كما فكر الاحتلال وقادته "يموت الكبار وينسى الصغار".
- الوسائل الأنسب للانتفاضة الحالية
يدور نقاش في الأوساط النخبوية الفلسطينية حول الشكل الذي يجب أن تتخذه انتفاضة القدس هل هو طابع عسكري أم سلمي؟، إن الإجابة عن هذا السؤال تحتم علينا قراءة تجارب الانتفاضات السابقة ومقارنتها مع القدرة الفلسطينية على المواجهة.
قدمت الانتفاضة الشعبية الأولى عام 1987م نموذجاً فريداً في مقاومة الاحتلال شعبياً، فقد استخدمت الحجر كسلاح استراتيجي الذي لا ينضب حتى أطلق عليها "انتفاضة الحجر"، وقد نفذت عدة عمليات نوعية خلال سنوات الانتفاضة إلا أن السمة البارزة للانتفاضة هي شعبيتها وانتشارها الواسع. وقد حققت الانتفاضة أهدافاً سياسية غير مسبوقة، إذ تم الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني على أرضة، وجعلت القضية الفلسطينية محط اهتمام العالم أجمع، ولم تنتهي الانتفاضة إلا بتحقيق جزء رئيس من قيام الدولة الفلسطينية وهو تحرير قطاع غزة والضفة الغربية وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، رغم وجود قيادتين للانتفاضة وهما القيادة الوطنية الموحدة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية ورفضت حركتي حماس والجهاد الإسلامي العمل ضمن القيادة الموحدة للانتفاضة وشكلتا قيادة ثانية للانتفاضة. أما الانتفاضة الثانية في تاريخ الشعب الفلسطيني الحديث كانت انتفاضة الأقصى عام 2000م، والتي اندلعت بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد 2000م واقتحام شارون للمسجد الأقصى. وبمقارنة الانتفاضتين الأولى والثانية نجد الانتفاضة الثانية كانت تتسم بالطابع العسكري لكل القوى والفصائل الفلسطينية. وبالرغم من تحقيق بعض النتائج الإيجابية في الانتفاضة الثانية إلا أنها لم تكن بالمستوى المطلوب مقارنة بما حققته الانتفاضة الأولى، فقد استغلت إسرائيل أحداث الانتفاضة وزادت المستوطنات في الضفة الغربية ثلاثة أضعاف، وكذلك دمرت البنية التحتية للسلطة الوطنية الفلسطينية ومؤسساتها من خلال الاجتياحات والقصف المتكرر في قطاع غزة والضفة الغربية بحجة قمع المسلحين. ولعل أسوء ما حدث هو توجيه سلاح الانتفاضة للمنتفضين أنفسهم، وفي نهاية الأمر تعمق الخلاف بين حركتي فتح وحماس محدثاً انقساماً سياسياً وجغرافياً عام 2007م.
وعندما نبحث عن الوسائل الأنسب لانتفاضة القدس الحالية، لابد من استخلاص الدروس والعبر من الانتفاضات السابقة، كي نتجاوز الأخطاء السابقة ونزيد من فرص نجاح الانتفاضة الحالية لتحقيق أكبر قدر من الأهداف. أعتقد بأن الانتفاضة الشعبية والسلمية لمواجهة المحتل هي من أنجع الوسائل لمواجهة الاحتلال، ولا تعني سلمية الانتفاضة الاعتماد على رفع الرايات فقط أو الخروج في مسيرات، فلابد من ابتكار وسائل جديدة قادرة على تغيير الوضع القائم دولياً، فالصورة أقوى من ألف كلمة. ويضاف إلى ما سبق أن قوة الانتفاضة الحالية تأتي من عفويتها فهي التي تجعلها متماسكة، لأن الحركات والأحزاب السياسية بالنهاية تعمل من خلال مؤسسات وتستطيع إسرائيل ضرب هذه المؤسسات وتقويضها بأسرع وقت ممكن.
- تداعيات الانتفاضة فلسطينياً
إن تفسير ما حدث لدى الشباب المنتفض ليس بالأمر البسيط، فكل النظريات التفسيرية في العلاقات الدولية غالباً تفشل في التنبؤ بالأحداث الهامة التي تحدث ثورة منهجية وفكرية في العلاقات ما بين الدول. وعندما نبحث عن التغير المفاجئ في ردة فعل المواطنين ضد دولة الاحتلال ومستوطنيها لا نستطيع تفسير ذلك أو التنبؤ بانعكاساتها ومدها بعد، وإنما نستطيع تأكيد حقيقة حدوث الانتفاضة كفاعل ومحرك سياسي على أرض الواقع. وبالرغم من عمر الانتفاضة القصير يمكن القول بأن أهم تداعيات الانتفاضة فلسطينياً كسرها لحاجز الصمت والجمود للعملية التفاوضية والوقوف في وجه المخططات الإسرائيلية الرامية لتقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً، وكذلك للدفاع عن النفس في وجه الارهاب الاستيطاني. فقد أرجعت الانتفاضة القضية الفلسطينية إلى الصدارة مرة أخرى بعد تعدد القضايا الإقليمية وخاصة العربية على الساحة الدولية، وهنا لابد من تكاثف الجهود ما بين القيادة السياسية والمنتفضين لتحقيق أهداف سياسية على أرض الواقع من خلال تكثيف الطاقات والجهود في مجالي الإعلام والسياسة.
إن التحرك العفوي غير المنظم أو المخطط له الذي قام به شباب ثائر كان دافعهم الأساسي والمحرك الرئيسي هي القضية الفلسطينية وشعورهم بالمسؤولية. ولعل هذا الدافع والمحرك هو من وحد المنتفضين في مسيراتهم وفعالياتهم تحت مظلة العلم الفلسطيني في مواجهة قوات الاحتلال وبمرور الوقت سوف يكون قادراً على توحيد المواطنين في مطالبهم وتوجهاتهم الوطنية. ولعل الأمر الأهم قبل إيجاد قيادة منظمة وموحدة للانتفاضة من قبل الحركات والأحزاب الفلسطينية هو دعم الانتفاضة الشعبية ودعم قيادتها الشعبية على الأرض بهدف دعم المشروع الوطني وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
- تداعيات الانتفاضة إسرائيلياً
في كل يوم جديد لانتفاضة القدس تتعاظم تداعياتها على إسرائيل بكل مكوناتها الرئيسية بالرغم من مواصلة الحكومة الإسرائيلية لقمع الانتفاضة وتحركاتها الإقليمية والدولية لكسر إرادة الشعب إلا أنها فشلت إلى الآن في ضبط الأمن وإعادة الهدوء كما كان في السابق.
ولعل خطورة الانتفاضة وقوتها على إسرائيل متمثلة في عفويتها وعفوية القائمين عليها، فهي تعبر عن إدراكهم بخطورة المشاريع والمخططات الإسرائيلية في القدس ووعيهم بإرهاب الدولة الذي يمارس ضدهم، وهذه الأسباب ألحقت الفشل الذريع في أجهزة الأمن الإسرائيلية وقدرتها على قمع المتظاهرين ومنفذي العمليات الفردية، فهم لا ينتمون للحركات والأحزاب الفلسطينية، وغير منظمون في مجموعات كي تستطيع الأجهزة العسكرية والاستخباراتية التعامل معهم. فكيف يمكن لهم الكشف عن الإدراك والوعي لدى الفلسطيني وخصوصاً وهو مواطن يعيش في أرضه ليس لديه تهم قضائية أو جنائية سابقة سوى أنه مواطن يشعر بالقمع والمهانة من قبل قوات الإحتلال؟. ولم يقف تأثير الانتفاضة فقط على قدرة الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية، بل تعدتها لتصل إلى وعي الإسرائيليين أنفسهم بخطورة ما يمكن أن تصنعه الانتفاضة بهم ففي يوم 28 تشرين أول أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجرته قناة الكنيست (البرلمان) الفضائية، تأييد 50% من الإسرائيليين المشاركين في التصويت، نقل مسؤولية الأحياء العربية في القدس الشرقية لمسؤولية السلطة الفلسطينية، وبيّن الاستطلاع أن 41% من المشاركين عارضوا نقل مسؤولية تلك الأحياء للسلطة الفلسطينية، مقابل حياد 9([v]). ويعتبر هذا تغير حاد في الفكر الإسرائيلي العام حيث يعتبر الإسرائيليين أن مدينة القدس هي عاصمة الدولة الإسرائيلية، وانتخب الإسرائيليين منذ العام2009 إلى اليوم اليمين المتطرف لثلاث دورات انتخابية متتالية، مما يعني تأييدهم الكامل للإرهاب ضد الشعب الفلسطيني.
إن انتفاضة القدس تتجاوز مسألة الأمن الإسرائيلي وحماية مستوطنيه في القدس والضفة الغربية، فقد أثرت الانتفاضة بشكل مباشر على الاقتصاد الإسرائيلي من حيث حالة الركود وتراجع الأسواق المحلية وإغلاق العديد من المحلات التجارية في القدس وخوف المستوطنين أنفسهم للخروج وممارسة حياتهم اليومية، بالإضافة إلى حالة الطوارئ ورفعها لدرجات قصوى نتيجة القلق الدائم وتوقع عمليات طعن فردية في أي لحظة وفي أي مكان وهذا يرهق ويوتر الشرطة الإسرائيلية فيما أعلنت إسرائيل عن زيادة عدد جنود الاحتياط، وباستمرار الانتفاضة وتوسعها سوف تستدعي اسرائيل عدة كتائب من جيش الاحتياط.
- الإحصائيات الأولية لانتفاضة القدس
لم يمضي على اندلاع انتفاضة القدس سوى شهر، وقد حققت الانتفاضة فيه عدة أهداف حتى وإن كانت بسيطة فاستمرارها يعني لنا تحقيق أهداف سياسية نوعية، ولعل الحدث الأهم في هذا التوقيت هو اندلاع الانتفاضة استمراراً لمسيرة النضال والتحرر الوطني.
إن أحداث الانتفاضة في الشهر الأول كانت عظيمة كعظمة صانعيها وتضحياتهم، ويمكن تسجيل احصائيات الانتفاضة في شهرها الأول حتى يوم 31 تشرين أول 2015 كما يلي:
أولاً| الاعتداءات الإسرائيلية([vi]):
م | اعتداءات قوات الاحتلال | العدد |
1 | الشهداء | 72 |
2 | المصابين | 8425 |
3 | المعتقلين | 1330 |
هذا بالإضافة تدمير الممتلكات العامة والخاصة من قبل المستوطنين في القدس ومناطق متفرقة في محافظات الضفة الغربية، والمضايقات على الطرق الرئيسية ورشق سيارات المواطنين بالحجارة وبعض الاقتحامات على القرى والأحياء المجاورة للمستوطنات في الضفة الغربية. وكذلك الإجراءات التعسفية التي تتخذها الحكومة الإسرائيلية بحق الشباب المنتفض وذويهم، فقد تعددت القرارات التعسفية والقمعية من هدم بيوت منفذي عمليات الطعن ومصادرة أملاكهم، والتهديد بسحب البطاقات المقدسية "الزرقاء" من المواطنين في القدس.
ثانياً| أعمال المقاومة الشعبية([vii]):
م | أعمال المقاومة | العدد |
1 | القتلى | 11 |
2 | عمليات طعن | 60 |
3 | الإصابات | 257 |
4 | أحداث إلقاء الحجارة على الحواجز الإسرائيلية | 1320 |
5 | إلقاء زجاجات حارقة محلية الصنع | 538 |
6 | حوادث إطلاق نار | 44 |
7 | إطلاق صواريخ من غزة | 6 |
8 | عمليات دهس | 4 |
وقد أجرى مركز القدس لدراسات الشأن الإسرائيلي، دراسة هامة على خارطة الاشتباك في الارض الفلسطينية، وخلص إلى نتائج أهمها أن نقاط الاشتباك الممكنة بين الضفة والقدس وغزة، تبلغ نحو 480 نقطة موزعة على كافة المحافظات، لكن ما تبين أن الفاعل فيها لا يتجاوز ال 60 منها بمستويات مختلفة([viii]). وهذا يتطلب الدعم الكامل للانتفاضة وفتح مواجهات في جميع محاور التماس بالتزامن، لأنه ما يقلق الاحتلال هو استمرار الانتفاضة وانتظامها في كل المناطق.
- توقعات
بعد عرض تداعيات انتفاضة القدس الدائرة حالياً في فلسطين، السؤال الآن هو: الانتفاضة إلى أين؟ أعتقد بأن الأوضاع الحالية تسير في ثلاث مسارات تختلف وتتباين وهي على النحو التالي:
أولا: استمرار انتفاضة القدس بالرغم من الخسائر البشرية والمادية في الطرف الفلسطيني، فالعودة للأوضاع السابقة يعني للمواطن الفلسطيني استمرار السياسات الإسرائيلية في القدس من اقتحامات ومخططات الفصل الزماني والمكاني للأقصى وكذلك واستمرار الاعتداءات الاستيطانية على المواطنين في كافة محافظات الضفة الغربية التي تصل للحرق والقتل كما حصل مع الطفل محمد أبو خضير وعائلة دوابشة لذلك سوف يستمر المنتفضون ضد السياسات العنصرية الإسرائيلية. ولكن هناك بعض المؤشرات التي لابد من إدراكها في استمرارية الانتفاضة وهي:
- استمرار الانتفاضة بشكل عفوي وسلمي، فالمواجهات مع قوات الاحتلال المدعومة من قوى الغرب تستطيع إيقاع العديد من الضحايا في الصفوف الفلسطينية وخاصة ما تقوم به قوات الاحتلال في هذه الأثناء من إعدامات ميدانية كي تمنع المتظاهرين من الخروج، لذا لابد من سلمية المظاهرات في وجه الاحتلال وابتداع طرق جديدة على حواجز الاحتلال كالامتناع عن المرور في ظل وجود تلك الحواجز والتجمهر بكثافة عليها بحضور الإعلام وغيرها. فالمظاهرات السلمية والعفوية تؤرق إسرائيل أكثر مما نتوقع.
- عدم عسكرة الانتفاضة، فعسكرة الانتفاضة الغير متكافئة تعني تدمير مؤسسات السلطة الوطنية هذا من جانب، ومن ثم توجيه سلاح الانتفاضة إلى الفلسطيني - الفلسطيني كما حدث في انتفاضة الأقصى عام 2000م من جانب أخر.
ثانياً: قمع الانتفاضة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، إسرائيل تقدم تعمل على قمع الانتفاضة من خلال عدة إجراءات كالإعدامات الميدانية للمنتفضين والانتشار المكثف لقوات الاحتلال في القدس ومحافظات الضفة الغربية، والأخطر هو السماح للمستوطنين بكافة الأعمال العنصرية وأخطرها حمل السلاح في وجه المواطنين. ولعل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أعلن للصحافة عن سياسة "القبضة الحديدية" والتي تعني هدم منازل منفذي عمليات الطعن، واستباحة دماء راشقي الحجارة. وأعتقد بأن هناك نقطتان رئيسيتان تواجهان السياسات القمعية الإسرائيلية تجاه المنتفضين وهما:
- الإدراك والوعي لدى المواطنين، فهم لن يموتوا وهم واقفين مكتوفي الأيدي جراء السياسات الإسرائيلية في القدس ومحافظات الضفة الغربية قبل وبعد الانتفاضة، بمعنى أخر لن يسلم المواطنين بالرؤية الإسرائيلية تجاه مدينة القدس وتقسيمها الزماني والمكاني وبأفعال المستوطنين في القدس والضفة الغربية. لذا الانتفاضة تعني رفض تلك السياسات والوقوف بوجهها.
- الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية لا يمكن له أن يستمر بوجود إرادة قوية لدي المواطنين الفلسطينيين الذين يتطلعون للحرية وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
ثالثاً: توقف الانتفاضة وتحقيق بعض النتائج السياسية الملموسة على الأرض. لكل انتفاضة أهداف تسعى لتحقيقها ولعل الهدف الجوهري للثورة الفلسطينية التي جمعت في وسائلها وخياراتها التحررية المقاومة المسلحة والسلمية والهبات الجماهيرية والانتفاضات. ولو أردنا أن نكون واقعيين في تحديد سقف الأهداف لهذه الانتفاضة هو منع تنفيذ المخططات الإسرائيلية تجاه المقدسات الفلسطينية ووضع حد لاعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين وممتلكاتهم، والسير قدماً في المشروع الوطني الفلسطيني.
هذا يتطلب تناغم ما بين القيادة السياسية والمواطنون المنتفضون على الأرض من خلال زيادة الضغط على الاحتلال من خلال برنامج مقاومة سلمية كامل يشمل المسيرات والفعاليات الشبابية على الحواجز وفي كل الأحياء العربية في القدس والضفة الغربية. ومطالبة القيادة السياسية من المجتمع الدولي بحماية الشعب الفلسطيني ومساعدته في التخلص من قبضة الاحتلال.
المصادر:
([i]) المسيري، عبد الوهاب. (2000): الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية دراسة في الإدراك والكرامة، الهيئة المصرية العامة للكتاب – مكتبة الأسرة، ص17.
([ii]) المسيري، عبد الوهاب. (2000): الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية دراسة في الإدراك والكرامة، الهيئة المصرية العامة للكتاب – مكتبة الأسرة، ص18.
([iii]) مجلة شؤون فلسطينية.(2013): ملف ضيف العدد مع أحمد قريع، القدس بين واقع مرير ومفاوضات عقيمة، العدد 251، شتاء 2013، ص 164.
([iv]) جريدة الأيام الفلسطينية. (2015): اقتحامات الأقصى تتواصل، رشق الحجارة يتصاعد، الجمعة 2 تشرين الأول 2015، العدد 7082، السنة العشرون، ص1.
([v]) هآرتس haaretz. (2015): استطلاع .. 50% من الإسرائيليين مع تسليم مسؤولية الأحياء العربية بالقدس للسلطة، صحيفة هآرتس العبرية، (ت) محمد شاهين، النشرة – نشرة مترجمة عن الصحف الإسرائيلية ليوم الأربعاء 28 تشرين الأول 2015، مركز قدس نت.
([vi]) الريماوي، علاء. (2015): الإحصائيات الشاملة لحصاد المقاومة، مركز القدس لدراسات الشأن الإسرائيلي، اليوم السبت 31 تشرين أول 2015.
([viii]) وكالة معاً الإخبارية. (2015): دراسه لـ مركز القدس حول خارطة الاشتباك في الأرض الفلسطينية.
http://maannews.net/Content.aspx?id=805331