شهدت الأسابيع الأخيرة الماضية هبة فلسطينية كبرى لم تشهدها الأراضي الفلسطينية منذ انحسار الانتفاضة الثانية عام 2005. ولا زال وقع أحداث هذه الهبة الشعبية يتسارع مما يوحي باحتمال تطورها إلى انتفاضة جديدة، تضيف حلقة أخرى في سلسلة طويلة من الثورات الشعبية الفلسطينية التي شهدها تاريخ فلسطين الحديث.
قد يتساءل المتتبع لهذا التاريخ المزدحم بالأحداث: لماذا لم تتحرر فلسطين رغم عظم التضحيات الفلسطينية عبر قرن كامل من النضال الوطني؟ ولماذا تحررت الشعوب الأخرى بينما لا يزال الفلسطينيون يراوحون مكانهم؟ ورغم أهمية هذه الأسئلة فإن تسارع الأحداث في القدس والضفة الغربية يقودان إلى البحث أيضا في طبيعة الرؤية الملائمة لاستثمار هذه الهبة الشعبية لتحقيق إنجاز وطني يليق بحجم التضحيات المبذولة.
لعل إحدى اهم الحقائق والمعطيات المرتبطة بالقضية الفلسطينية حقيقة أن هذه القضية قد نشأت وتركبت وفقا لتوازن القوى الدولي القائم منتصف القرن الماضي وبقرار من القوى العظمى انذاك. هذه الحقيقة تفسر قصور الجهود المحلية المبذولة طيلة سبعة عقود من النضال الفلسطيني والعربي عن إنهاء الإحتلال وإعادة الاعتبار للحق الفلسطيني.
فالمشكلة ليست ذات بعد محلي لكي تتم تسويتها بجهود محلية، فوجود وبقاء اسرائيل –سواء اعتبرناها رأس حربة لمشروع استعماري امبريالي في المنطقة أم لا- هو أمر مرتبط بميزان القوى الدولي. ولكي يتم تغيير هذا الوضع فإن المدخل لذلك هو إحداث تغيير في معادلة القوى العظمى وتوازناتها، وهذا غير متوقع على المدى المنظور.
وفي مثل هذه الحال فإن الاستراتيجية المطلوبة هي استمرار الصمود الفلسطيني، والسعي المتواصل لتحقيق اختراقات تراكمية على الصعيد الدولي عبر جهود الأفراد والمؤسسات والدول الداعمة للحق الفلسطيني. وهنا تصبح جهود حركة دولية مثل Boycott Divest Sanctions (BDS) شديدة الأهمية في هذا المسار. فكما أفلحت الجهود الطويلة لعزل النظام العنصري في جنوب افريقيا دوليا، فبالإمكان تكرار الحال مع الكيان الصهيوني –مع مزيد من الصير والصمود-.
لا شك أن المعادلة الاقليمية أيضا شديدة التأثير في الوضع الفلسطيني، إلا أن انشغال دول المنطقة بهموم وصراعات أخرى لا تنتهي يجعل من القضية الفلسطينية في الوقت الراهن قضية ثانوية قابلة للتأجيل بالنسبة لهذه الدول. لذا، فإن أقصى ما يمكن أن يعول عليه الفلسطينيون من محيطهم العربي في هذه الفترة الحرجة هو الدعم المعنوي، وهو متبادل في التأثير. فكما اثرت الانتفاضتان الأولى والثانية وحروب غزة الثلاثة في الوعي العربي العام وألهبت حماس المواطن العربي لتغيير واقعه، فقد أثرت الثورات العربية ايجابا في وعي الانسان الفلسطيني وخصوصا الجيل الشاب الذي يتصدر أحداث الانتفاضة الجارية.
انتفاضة متوقعة!
لم تكن الانتفاضة الحالية مفاجئة لأحد، فقد جاءت نتيجة طبيعية لتراكم عوامل عدة في الساحة الفلسطينية. ويأتي على رأس هذه العوامل فشل المشروع السياسي للرئيس محمود عباس، وتدهور الوضع الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية بشكل متسارع، بالإضافة لتصاعد الضغط النفسي على الانسان الفلسطيني الذي غدا يعيش قهرا تحت حكم عنصري لا يتورع عن التنكيل به وامتهان إنسانيته. مما لا شك فيه أن الوضع السابق لاندلاع هذه الانتفاضة لم يكن وضعا طبيعيا، فقد كانت الضفة المحتلة أشبه بقدر مغلق مضغوط ينتظر الانفجار، وهذا ما حصل بالفعل!
هذه الانتفاضة –المتوقعة الحدوث المجهولة النتائج- تتطلب من النخب الفلسطينية بشتى تلويناتها الايديولوجية والفصائلية أن تكون على مستوى الحدث، وأن تحسن صناعة وإدارة وتوجيه الأحداث بما يخدم الطموح الوطني الفلسطيني بالتحرر والاستقلال. والعمل لتحقيق هذا الطموح يتطلب الاستفادة من التجارب النضالية للشعوب الأخرى واستلهام التاريخ النضالي الطويل للشعب الفلسطيني نفسه.
ولعل الحالة الفلسطينية تمتاز عن كثير من التجارب الأخرى. فمعظم الشعوب المستعمرة تحررت بنضال شعبي -لا عنفي- كالهند وماليزيا والسودان وغيرها -ربما لطبيعة معظم الدول الاستعمارية التي كانت تهدف لنهب ثروات الأطراف ونقلها للمركز الاستعماري، فلما ضعف المركز تراجع الاستعمار في الاطراف وانحسر. بينما تميزت بعض الشعوب الأخرى كالجزائر وجنول افريقيا بتجارب نضالية دامية وطويلة -بسبب تعرضها لاستعمار استيطاني احلالي اضطرها للدخول في صراع وجودي عنيف.
أما الحالة الفلسطينية فهي متميزة عن كلى النموذجين، فالاحتلال الصهيوني –بلا شك- استعمار استيطاني احلالي وجودي يقتضي الدخول في صراع وجودي عنيف، لكن تطورات الوضع الفلسطيني منذ الانتفاضة الأولى مرورا بمأزق أوسلو ثم تشكيل السلطة الفلسطينية وما أعقبه من انتفاضة ثانية وانسحاب صهيوني من غزة يجعل من التركيز حاليا على دحر الاحتلال من الضفة الغربية وانهاء الحصار على قطاع غزة استراتيجية مطلوبة للتعامل الأمثل مع الوضع القائم.
ولكي تنجح هذه الاستراتيجية –التي سيكون من المهم لتحقيقها استثمار الاعتراف والتأييد الدولي لقيام دولة فلسطينية – فإن على الانتفاضة الفلسطينية بمجموعها وأفرادها أن تكثف جهودها للتأثير على صانع القرار الصهيوني وعلى الرأي العام الذي يوجهه. باختصار، يجب أن تسعى الانتفاضة الجارية للضغط على صانع القرار الصهيوني لكي ينسحب الاحتلال من الضفة ويصفي جيوبه الاستيطانية فيها.
جدوى الانتفاضة
من المهم في هذا السياق البحث في إمكانية تحقيق هذا الهدف، فكثافة أعمال المقاومة الفردية منذ اندلاع انتفاضة القدس الحالية وتصاعد المشاركة الجماهيرية يدفعان للبحث في مدى نجاعة هذه الجهود. والمدخل إلى ذلك هو البحث في المفهوم الصهيوني للأمن، فهل أثرت فعاليات هذه الانتفاضة في الأمن الصهيوني بشكل يمكن استثماره فلسطينيا؟
تدور الكثير من التعريفات المعتمدة لمفهوم الأمن في علوم الاستراتيجيا والسياسة على فكرة الحفاظ على المصالح والقيم وحمايتها من أي تهديد. وسواء نظرنا لمفهوم الأمن من منظور الأفراد أو المجتمع أو الدولة فإن الانتفاضة الجارية قد نجحت في زعزعة أمن الطرف الصهيوني بشتى تشكيلاته. فقد نجحت مئات عمليات الطعن وإطلاق النار والقاء الحجارة والمولوتوف في تهديد المصالح والقيم الفردية والجماعية للجانب الصهيوني، وهذا إنجاز من الممكن توجيهه للضغط على صانع القرار الصهيوني لإنهاء الاحتلال إن كان يرغب في استعادة تلك المصالح والقيم.
ومن المهم هنا الإشارة إلى طبيعة هذه المصالح والقيم الصهيونية. فقد قامت "إسرائيل" على أسطورة بناء أرض السمن والعسل الموعودة لشعب الله المختار، ومن أجل هذا الحلم ضحت الأجيال الصهيونية الأولى بالكثير على الصعيد الفردي والجماعي فكانت قيمة التضحية من أجل تحقيق المشروع الصهيوني قيمة فردية وجماعية مهمة لدى المجتمع المؤسس. لكن ومع مرور السنين وظهور أجيال صهيونية جديدة لا يمثل لها المشروع الصهيوني سوى مجموعة من المكتسبات والحياة الرغيدة -التي ساهم في تأمينها مشروع أوسلو- فقد تغير الانسان الصهيوني وتغيرت معه قيمه. فلم يعد الفرد الصهيوني الحالي مقاتلا كما كان اباءه وأجداده الذين كانوا مستعدين للتضحية من أجل المشروع.
باختصار، الجيل الإسرائيلي الحالي هو جيل جبان يخشى على مكتسباته من أي تهديد وهو مستعد للتضحية ببعض المشروع (وربما كله عما قريب) مقابل الحفاظ على بعض المكتسبات من قبيل الاستقرار والرخاء الاقتصادي. ولعل صورة الجندي المدجج بالسلاح وهو هارب من الشهيد اياد العواودة المسلح بسكين، وقبلها صور الجندي الذي يصرح مستنجدا بأمه وهو تحت أيدي المقاومين في أحد المعسكرات إبان حرب 2014، تؤكدان حقيقة هذا التحول في الشخصية الإسرائيلية.
لذا وانطلاقا من هذا التحليل، فإن المجتمع الإسرائيلي الحالي أكثر استعدادا للتنازل عن تواجده في الضفة الغربية –أو أجزاء منها- مقابل الحفاظ على أمنه واستقراره من أي جيل مضى. ولعل الاستطلاع الذي نشرته صحيفة "معاريف" العبرية مؤخرا وأفاد بموافقة نسبة 66% من اليهود الاسرائيليين على الانسحاب من الأحياء العربية في القدس يمثل مؤشرا واضحا على قابلية الاحتلال للتعاطي مع ضغط المقاومة. فبالأمس القريب كانت الغالبية الساحقة من الاسرائيليين تزعم أن القدس الموحدة عاصمة أبدية موحدة للكيان الصهيوني، وهو ما تغير خلال أقل من شهر من انتفاضة القدس والفلسطينيين.
أما على الجانب الفلسطيني فليس لدى الفلسطينيين الكثير ليخسروه إن وقعت المواجهة. فالحقوق والمصالح والقيم الفلسطينية مستباحة أصلا، ولا تشكل الانتفاضة تهديدا لها، بل على العكس، تمثل الانتفاضة فرصة لخلق نوع من توازن الردع بحيث يتم تهديد المصالح والمكتسبات الصهيونية كلما تم تهديد أو الاعتداء على الحقوق الفلسطينية، وهذا بلا شك أفضل من الحفاظ على الوضع الراهن.
المطلوب الآن هو استمرار هذه الانتفاضة وتصاعدها وتوجيه بوصلتها لما يخدم الطموح الوطني الفلسطيني.