وسط حالة من الذهول من استمرارية وقوة ردة فعل الفلسطينيين (في القدس والضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948) تجاه مشروع حكومة الاحتلال لتقسيم المسجد الأقصى زمانيا ومكانيا، لا بد لنا من البحث في أخطاء الإنتفاضتين السابقتين بغرض تجنبها هذه المرة. عنوان هذا المقال يعني ضمنيا أنه كان من الممكن أن تكون نتائج الانتفاضتين السابقتين أفضل بكثير مما آل إليه الحال.
دعونا نلقي نظرة سريعة على نتائج الانتفاضتين السابقتين. الانتفاضة الأولى، وبالرغم من إسهامها في رفع الوعي العام الفلسطيني وتوجيهه نحو السعي بجدية أكبر إلى تحرير أرضه ونيل حقوقه كاملة، إلا أنها انتهت باتفاقية أوسلو وقيام سلطة ضعيفة الأدوات تريح المحتل من أعباء جرائمه، والأسوأ من هذا هو اعتراف منظمة التحرير الفلسطينيية (الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين) بحق "إسرائيل" في الوجود وإقامة دولته على أراضي الفلسطينيين المقتولين والمهجرين عام 1948.
أما الانتفاضة الثانية، فبالرغم من تطور أدوات الرد والردع المسلح لدى الفلسطينيين فيها، وكونها أدت إلى طرد المحتل الصهيوني من قطاع غزة، إلا أنه تم خلالها إنهاك الشعب الفلسطيني ومقاومته وتدمير البنية التحتية للأراضي الفلسطينية، خصوصا في الضفة الغربية – الميدان الاستراتيجي للمواجهة مع الاحتلال -، كما وتم تصفية معظم قيادات الصفين الأول والثاني للفصائل الفلسطينية، وانتهت بعدها بسنوات قليلة إلى الصفحة الأكثر سوادا في تاريخ الفلسطينيين ألا وهي الانقسام الداخلي، الذي نتج عنه حالة من التشرذم الاجتماعي والكراهية بين أبناء الشعب الواحد وسيادة المنهج الإقصائي للآخر، كما أدى إلى حالة شاذة يتم فيها تجريم مقاومة المحتل في الضفة المحتلة، وضيعت علينا تحقيق العديد من المكاسب السياسية لانتصارات المقاومة الفلسطينية في الحروب الإسرائيلية الثلاث على غزة أعوام 2008/2009 و2012 و2014.
كما يبدو لنا من هذه المقدمة، فإنه يتوجب علينا أن نبذل الجهود في دراسة الأخطاء التي وقعنا فيها سابقا بهدف أن نتجنبها في هذه الانتفاضة الثالثة. لهذا الغرض، فإن الإقتراحات التالية سوف تودي بنا إلى أفضل نتيجة ممكنة من هذه الإنتفاضة في حال استمرارها:
- تفعيل الوسائل المدنية في مقاومة المحتل، وعلى رأسها المقاطعة الاقتصادية للاحتلال
مفهوم المقاومة أعم وأشمل بكثير من العمليات العسكرية وعمليات الطعن وإطلاق النار. وبلغة العلوم الشرعية؛ إذا كانت المقاومة المسلحة فرض كفاية على الفلسطينيين (يعني إن قام بها البعض سقط الواجب عن الكل)، فإن المقاومة الشعبية (أو المدنية) تكون فرض عين على كل الفلسطينيين.
لو تعمقنا بشكل أكبر، فإن مقاطعة منتجات المحتل مقاومة، وفضح المحتل إعلاميا (عالميا ومحليا) مقاومة، والتعليم الهادف مقاومة، ودعم الفن والتراث الفلسطيني أيضا مقاومة. لذا فإنه يتوجب علينا في هذه المرحلة أن نوعي أنفسنا وأهالينا وشعبنا بأهمية ممارسة كل أشكال المقاومة، أو على الأقل دعم ومساندة من يقوم بهذه الأشكال من المقاومة.
وقد كان التركيز في عنوان هذه النقطة على المقاطعة الاقتصادية للمحتل، إذ ليست الفائدة المرجوة من هذه المقاطعة هي كسر وإضعاف إقتصاد المحتل فقط، إنما أيضا الإرتقاء بشعور أبناء شعبنا والوصول إلى قناعة تامة أننا في غنىً عن المحتل ومنتجاته، وهذه مقدمة لزيادة النقمة عليه، ومن ثم السعي الحثيث إلى إزالته والحصول على الحرية والإستقلال. إن أقل ما يمكننا فعله هو المقاطعة الشعبية الذاتية لمنتجات الإحتلال الغذائية والملابس وما على شاكلتهما، إذ هناك العديد من البدائل الجيدة، محلية الصنع كانت أو مستوردة عربية المنشأ.
- اعتماد الإضراب الجزئي بدل الإضراب الشامل
انتشرت عبر سنوات النضال الفلسطيني ضد الإنتداب البريطاني ثم الاحتلال الإسرائيلي فكرة الحِداد أو الإضراب الشامل (حيث تتعطل جميع القطاعات العامة والخاصة عن العمل). وكان الإضراب الشامل في السابق نادر الحدوث وعلى فترات متباعدة. لكن، مع مرور الزمن، ازداد تكرار هذه الإضرابات، وأصبحت على فترات متقاربة جدا، حيث أنك تجد أن محافظة الخليل مؤخرا قد شهدت ثلاث إضرابات في ظرف أسبوعين. ولك أن تتصور أيها القارئ كم من المصالح والأعمال تتعطل دون أن يتضرر المحتل من هذا الفعل، إذ تتعطل المحال التجارية والمصانع، ويتراجع التعليم، وتتعطل المرافق الصحية بالرغم من أمس الحاجة لها في تلك الأوقات. كل هذا والمحتل لا يتأثر بشكل فعلي وحقيقي.
الحجة الأبرز لمؤيدي هذه الإضرابات هي تقديم الدعم والمواساة لأهل الشهداء الذين يرتقون يوما بعد يوم. إذا كانت هذه هي الحال، فلعله من المنطقي أن نتساءل عن نسبة مشاركة الناس في تقديم الدعم والمواساة لأهالي الشهداء؟! ولنا أن نستفسر عن مدى فاعلية هذه الوسيلة في إظهار الدعم لهم؟! الواقع يقول أن الغالبية العظمى من الناس المضربين عن العمل لا يشاركون في تشييع جنائز الشهداء، ولا يزورون بيوت العزاء لتقديم واجب التعزية لأهاليهم، إنما يقضون يومهم داخل بيوتهم – مثل أي يوم إجازة آخر – وكأن شيئا لم يحدث! وفي المحصّلة، لم يتم الثأر لدم الشهيد، ولم يتم القصاص للعرض المنتهك، ولم تتم إعادة الحق لأصحابه.
لقد أصبحت فكرة الإضراب أشبه بالموضة مؤخرا، خصوصا لدى التنظيمات الفلسطينية التي تشهد تناقضات كبيرة بين مبادئها ومناهجها على الورق وبين ممارساتها في أرض الواقع، حيث أنها تريح ضمائرهم جزئيا، وتوهمهم أنهم قد "قاموا بالواجب"، وتجنبهم الإضطراب التنظيمي الداخلي بين الأفراد والقيادة.
في الحقيقة، المتضرر الأكبر من هذه الإضرابات هو الانتفاضة ككل، لأن الإضراب يجعل هِمم الناس تفتر، وتُهدّئ من أعصابهم، مما يثنيهم عن الرد على اعتداءات المحتل الغاصب.
بعد هذا التوضيح، إنه من الأفضل والمستحسن أن نعتمد الإضراب الجزئي بدل القيام بالإضراب الشامل. وأعني بالإضراب الجزئي أن يقوم الناس في القطاعات كلها (باستثناء قطاعي الصحة والتعليم لأهميتهما الحرجة) بالتوقف عن العمل وإغلاق محالهم ودوائرهم لمدة ساعة أو اثنتين عند تشييع جنائز الشهداء، بحيث يشارك أكبر عدد ممكن من التجار والموظفين والعمال والأهالي في تقديم واجب الدعم والمواساة والعزاء.
- الاستفادة من التطور التكنولوجي في التواصل ونشر الوعي وفضح جرائم المحتل
في السابق، كان المحتل الصهيوني يمارس جرائمه وغطرسته دون أن يعلم أحد حول العالم بها، وإذا تمكنت الأخبار من الظهور والإنتشار فإنها تكون متأخرة ولا تحقق الفائدة المرجوة من نشرها. كما كان التواصل ضعيفا بين أبناء الشعب في الأراضي الفلسطينية المشرذمة جغرافيا بحكم وجود الإحتلال وحواجزه وجداره، بحيث يستفرد الإحتلال بكل منطقة على حدة، ولا تظهر الأخبار للعلن إلا وفق الرواية الإسرائيلية وفي الوقت الذي يحددونه هم، فلا تتم نصرة من يتعرض للإعتداء ولا يتم تشتيت جهود الإحتلال في كل الجبهات.
هذه الهبة الشعبية (أو الانتفاضة إن استمرت) تختلف ظروفها عن سابقاتها، حيث تتوفر حاليا آليات تكنولوجية (مثل الهواتف الذكية ومواقع التواصل الإجتماعي وغيرها) تسهل من عملية التواصل بين أبناء الشعب، وتساهم في نشر التوعية بشكل أكبر وأسرع من السابق، كما توفر إمكانية توثيق اعتداءات الإحتلال وفضحها أولا بأول.
كل هذه الوسائل تؤسس لأرضية صلبة يستند إليها الفلسطينيون في تصعيد المواجهة للمحتل وعساكره، ويسير بهم نحو تحقيق أكبر فائدة ممكنة من الإنتفاضة.
- تعزيز الوحدة الوطنية، وتشكيل تيار وطني جامع يلتف حول خيار المقاومة
كما أشرت سابقا، فإن حالة الانقسام الفلسطيني الداخلي التي نشهدها منذ الحسم العسكري في غزة عام 2007 (الذي نشأ عنه حكومتين منفصلتين في الضفة وغزة) هي الصفحة الأكثر سوادا في تاريخ الشعب الفلسطيني الحديث، وسببت لنا تضييع الكثير من الفرص والمكاسب السياسية محليا وعالميا.
بغض النظر عن الأسباب الحقيقية وراء الانقسام والمسؤول الفعلي عنه، فإنه يتوجب علينا قبل أي شيء آخر أن نتوحد جميعا خلف ثوابتنا الفلسطينية التي نشأت للمطالبة بها منظمة التحرير الفلسطينية عام 1965، والتي ارتكزت عليها جميع الفصائل الفلسطينية عند تأسيسها. هذه الثوابت، وعلى رأسها التمسك بتحرير كامل أرض فلسطين التاريخية، يجب أن تكون البوصلة لجميع أبناء وفصائل الشعب الفلسطيني، فمن يتمسك بها ويسير على نهجها ندعمه ونقف في صفه.
وأظن أننا تعلمنا من كل التجارب السابقة أن طريق التسوية السلمية وحده لن يعيد لنا كامل الأرض الفلسطينية. إذا لا بد من ممارسة المقاومة بكل أشكالها المدنية والعنيفة.
بدون تحقيق الوحدة (الشعبية والرسمية أيضا) لن نحقق أي تقدم حقيقي نحو تحقيق أهدافنا. لذا يتوجب علينا أن نقف صفا واحدا خلف قيادة وطنية موحدة تمثل الشعب الفلسطيني بشكل حقيقي وتسير بنا نحو الحرية والإستقلال. وللأسف فإن المنظمة التي من المفترض أنها الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين لا تضم أكبر فصيلين إسلاميين في الشارع الفلسطيني حركتي حماس والجهاد الإسلامي!
إن لم تقم القيادات الفصائلية بتحقيق المصالحة الوطنية والوحدة، فإنه يتوجب على الشعب أن يتجاوز من يعرقل تحرير كامل الأرض ولا يؤمن بهذا الحق للفلسطينيين. كما ينبغي على الشعب أن يسعى إلى بناء مؤسسات وطنية جديدة تمثل الفلسطينيين بشكل حقيقي في الداخل والخارج وتنتهج كل الخيارات العملية المتاحة، بما فيها المقاومة المسلحة.
وعندما أقول تيار المقاومة، فإني لا أقصد أي فصيل بعينه، إنما أقصد أنه يتوجب علينا دعم التيار الوطني المؤيد للمقاومة في كل فصيل أو منظمة وطنية على حدة، ومن ثم توحيدها جميعا في إطار وطني واحد خلف قيادة موحدة يحمل جميع أفرادها نفس الأرضية، وهي الثوابت الفلسطينية الكاملة: تحرير كامل أرض فلسطين التاريخية؛ واستعادة القدس؛ وتمكين اللاجئين من العودة إلى ديارهم؛ وبطبيعة الحال، تحرير كافة الأسرى من السجون.
ختاما، تطبيق هذه الأمور سوف يقربنا أكثر إلى نيل حقوقنا وحريتنا واستقلالنا، وكلما سارعنا في تصحيح أخطائنا، عجلنا من طرد المحتل الغاصب عن أرضنا. رحم الله شهدائنا، وشفى جرحانا، وأعاننا على المضي قدما.