فلسطين المحتلة-قدس الإخبارية: كثيرون راهنوا على فشل هذا الجيل الصاعد وانغماسه في ترف الحياة ومادّيتها لكنهم خسروا الرهان، فالمتمعن جيّداً في إرهاصات الهبّة الحالية يلحظ أنها فاقت التوقعات في كل شيء، بدأتُ بالجيلِ الجديد لأن الانسان ليس فقط أساسُ كل هبّة، بل هو رأس المال لشتى مناحي الحياة، لكن الغريب أن نسبةً لا يُستهان بها من الشباب الفلسطيني تركوا التفاصيل وفركوا عقولهم بأيديهم متسائلين حائرين "هل ستقوم الانتفاضة؟ هل هي مجرد هبّة أسبوع وتنتهي؟!"، وقسمٌ آخر من الشباب الفلسطيني للأسف عقله لا يعمل إلا في جزيئاتٍ فسيفسائيةٍ تتمثل بـ"خروج الفتاة للمواجهات حرام"، و"الشهيد فلان هو إبن التنظيم هذا أو ذاك"، أما القسم الأخير فلجأ لأسطوانة "أين الفصائل، أين التنظيمات؟!"، ونسي كل هؤلاء أن الانسان أساس هذه الفصائل بل وأساس كل شيء.
لنفتح النافذة على الجيل الجديد، ولنترك للجميع أفكارهم التي تحلو لهم، هذا الجيل لا أبالغ إذا ما قُلت أنه صنع هبّة باهرة لم تنتهِ حتى اللحظة، من ماذا يتألف الجيل الجديد؟، ببساطة من طلبةٍ مدارسهم جلّ ما يفتحون عيونهم عليه، وطلبة جامعاتٍ فلسطينية تخرجهم ومشكلاتهم الأكاديمية أكبر همومهم، ومن خريجين عاطلين عن العمل، إضافةً لقسمٍ وجد له عملاً خاصاً ومنهمكٌ فيه، كثيرون لم يتوقعوا من الشباب شيئاً في حالة اللاسلم واللاحرب، لكنه أثبت أن هم وطنه عنده لا يزال يستحق أن يُحمَل.
على أية حال، فليسمّها كل فلسطيني كما يشاء "انتفاضة"، "هبّة"، "موجة"، لكنها أدخلت منهجاً جديداً لمدرسة النضال الفلسطيني برخمٍ أكبر هو "منهج العمليات الفردية"، والمتفحص لسلسلة العمليات الفردية المتتابعة يُدرك أنها أصبحت أسلوباً ومنهجاً معتمداً عند الكثير من الشباب الفلسطيني، بل وأصبحت تتخذ صفة "التراكمية" عبر الاستفادة السريعة من التجارب السابقة، فبدأت عمليات الطعن مثلاً بمنفذٍ واحد، ثم انتقلت لمنفذٍ يطعنُ ويخطف سلاحاً من المطعون ويطلق النار، وتلا ذلك منفذٌ واحد يدهس ويترجل ليطعن، وواصلت العمليات الفردية تطورها التدريجي مروراً بمنفذين إثنين بالسكاكين، وصولاً إلى منفذين إثنين أحدهما يُطلق النار وآخر يطعن بالسكّين.
بالعودة للجيل الجديد، تنظرُ للمواجهاتِ تلمحُ مشاركةً فاعلة لشرائح متنوعة، هو عبارةٌ خليطٍ سياسي وطني، هؤلاء الشبّاب هم من رسموا العلم الفلسطيني بأنصع صوره وأبهى ألوانه عبر وجودهم شباباً وفتيات، وما أروع مناظر الوحدة الوطنية التي يُلقي بها إلينا المصورون الهواة والصحفيون من قلب المواجهات، هل من فلسطينيٍ يكره هذه الصور؟!، هذا هو جيلُ النخبةِ الفلسطيني الذي رغم أنه عاش سنواتٍ مريرةً من الانقسام، إلا أنه دائماً يتعالى على آلامه عندما يجرحه عدوه، أتمنى أن تُعمم ثقافة الوحدة الوطنية في كل بيتٍ وشارع، فالعدو في الميدان يقمع شتى الشبّان، لا يختار أحداً بعينه دون آخر، فالكل "فلسطيني" في مرمى عيون قنّاص "الروجر"، وفي فوّهة بندقية الغاز، من هنا تمعّن آخر 23 كلمة قبل الفاصلة الأخيرة ستفهم كلاماً يعجز "المعتصبون سياسياً" عن فهمه!.
أعجبتني عباراتٌ متداولة بكثرة في مواقع التواصل الاجتماعي وحتى أن تعليقات النشطاء على الصفحات الاخبارية قد عجّت بها، تقول هذه العبارات "هذا جيل الواكس والموضة الذي كنتم تلومونه، أصبح مرجلاً يغلي من أجل الوطن ومقدساته"، نعم هذا الجيل لم يعش الانتفاضتين، لكنه عاش الظلم والقهر، وعانى من عصابات المستوطنين المتطرفين، هذه ليست معادلةً عاطفية بل هي معادلة طبيعية كونية "الضغط يولد الانفجار"، ماذا لو لم يُعلن الاحتلال عن التقسيم الزماني والمكاني، ولم يصعّد من اقتحامات مستوطنيه وجنوده للأقصى، ماذا لو كّف قطعان المستوطنين أياديهم عن الاعتداءات في الوطن، هل كانت ستحدث الهبّة الحالية في وقتها؟!، بصراحة لا أعتقد، لكنها كانت ستحدث متأخرةً لأن الاحتلال الاسرائيلي عوّدنا على سياساته العنصرية والقمعية منذ قدومه بقوة السلاح، إن الحكومة اليمينية التي تنساق دائماً لضغوط المتطرفين هي العنوان العريض الذي يندرج تحته كل ما عجّل في إنطلاق شرارة الهبّة.
إيجابيات الهبّة الشعبية لا تتركز في خلق الرعب والهوس الأمني لدى الاحتلال ومستوطنيه فقط، وليست تتمثل بالردود المتتالية عبر عمليات الطعن والدهس فحسب، بل جمالها برأيي أيضاً يكمن في نقائها، فهدأت وتيرة خيول النشطاء المتعصبين سياسياً عن التجول في "فيسبوك"، كذلك فهي أبعدت عيون النشطاء الفلسطينيين نسبياً عن أزمات الدول المجاورة وصوّبوا سهام عيونهم نحو وطنهم، الجميع تتجه أنظاره لما يجري من اعتداءات إسرائيلية ويكتب عنها، ويستيقظ عن كثبٍ ليسأل عن حالة الطرق، وعن عدد الشهداء، لا وقت للمناكفات الحزبية في مثل هذه الظروف، وهذه الأمور عادت لتكون مشهداً روتينياً في حياة الفلسطيني، رغم الليل القاسي الذي يلف هذا المشهد بقتامة ألوانه إلا أن قمراً لا يزال يلوح في السماء.
هنا صورةٌ لفتاةٌ ملثمّة بالكوفية تمد الحجارة لاثنينِ يرتدون عصبات خضراء على الجباه، وهناك صورة من مسافةٍ بعيدةٍ، يظهر فيها شابٌ يوشح جبينه بعصبة خضراء يربط لرفيقه عصبةً صغيرة أخرى مزدانةً بشعار العاصفة، وصورة أخرى لثلاثة شبّان ملثمّون بألوانٍ حمراء وخضراء وكوفية لكنهم يجلسون متراصّين على مقعدٍ واحد!، لو قُدّر أن نرى الشهداء لابتسموا في وجه جيل النخبةِ الوحدوي!، قلت وجهاً لا وجوه، لأن للقدس وجهٌ واحد، وللفلسطيني عدو واحد.