مما لاشك فيه أن الاحتلال الاسرائيلي لا يتعامل بردّات الفعل، وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة أصبحت كذلك، أي أن سياسة "النفس الطويل" والتفكير الاستراتيجي غدت عنواناً بارزا، فالاحتلال لا يُمكنه أن يشن حرباً رداً علىاإستهدافٍ هنا أو هناك، أو شن حربٍ من أجل الحرب، والمقاومة لها ذات الطريقة في التعامل فهي لا ترد فورياً على خروقات الاحتلال للتهدئة، إذن كلا الجهتين له مصلحته في استمرار سريان التهدئة الحالية.
المقاومة الفلسطينية التي بدأت تعكف على تطوير قدراتها الصاروخية وغير الصاروخية بوتيرة متسارعة وملحوظة منذ عام 2008 لم تعد تتعامل بطريقة "الفعل الاسرائيلي يلزمه رد فعلٍ فلسطيني مباشر وفوري"، فمصلحتها أن تستفيد من فترات سريان التهدئة في تطوير إمكانيتها وعتادها من جهة، وتضيف مقاتلين جدداً إلى التجنيد لدى مجموعاتها المختلفة في قطاع غزة من جهة أخرى، أما الاحتلال فهو لا يريد أيضاً جر غزة لحربٍ طويلة كسابقاتها، لإدراكه أنها ستجر ملايين الاسرائيليين في الملاجئ من جديد، خاصة في ظل الدوام المدرسي داخل الأراضي المحتلة عام48، كما أن الاحتلال لا يريد حرباً سعياً منه لجمع كم هائل من المعلومات الاستخبارتية بقدر ما يستطيع، فإطلاق الصواريخ التجريبية نحو البحر، وتخريج معظم فصائل المقاومة لدوراتٍ عسكرية جديدة، كل هذه التطورات يرقبها الاحتلال الاسرائيلي عن كثب، ويحاول معرفة ما يدور في خلد المقاومة الفلسطينية، وما هي تحديثاتها وما الذي تخفيه أو ستمتلكه.
أما النقطة الأخرى، فتتمثل بعدم قدرة أي جيشٍ في العالم على خوض حربٍ مباغتة دون امتلاكه معلوماتٍ عن الطرف الآخر الذي سيواجهه، سواء معلومات تتعلق بالسلاح أو العتاد أو عدد المقاتلين وبقية التطورات المعروفة في المجال العسكري والأمني.
فالاحتلال ليس بمقدروه خوض حروبٍ سنوية متتالية كتقليدٍ ثابت ضد قطاع غزة، لأنه يجري تقييماً حول المعارك والحروب السابقة التي خاضها، ويستفيد الدروس والعبر منها ويتفحص مواطن الضعف ومواطن القوة ومكامن الخلل في الأداء والمجريات خلال المعارك، إضافة لأن الجيش يسعى لتكثيف تدريب جنوده، كل هذه الأمور تستغرق وقتاً ولا يمكن إتمامها في بضعة أشهر.
عندما نتحدث عن إمكانية اندلاع "حرب" جديدة فالحديث يدور حول حرب على مختلف جبهات القتال، وهنا تبرز المسألة الشائكة والأكثر حساسية وهي ملف الجنود الأسرى والمفقودين الاسرائيليين في قطاع غزة، فكيف يغامر الاحتلال بحربٍ جديدة يتخللها حملة عسكرية برية وهو لم يُنجز بعد ملف أسرى جيشه ومفقوديه؟!.
هذا الأمر يقودنا لقضية السلاح الاستراتيجي للمقاومة الفلسطينية المتمثل بالأنفاق، والتي ظهر دورها جلياً في دعم المقاومة وإضفاء عامل قوةٍ لها، وأدّى لكشف عورة جيش الاحتلال، فكيف يقرر نتنياهو حرباً جديدة على غزة وهو لا يجد حلاً جذرياً لمشكلة "الإنزال خلف الخطوط" عبر الأنفاق مثلاً؟! وبالتأكيد جيش الاحتلال لا يمكنه خوض غمار حرب جديدة بدون إيجاد حلٍ لمسألة "الضفادع البشرية"؟!.
في هذه الفترة سيبقى استعداد كلا الطرفين للحرب القادمة على قدمٍ وساق بلا توقف، وكلاهما سيحاول أن يتعلم من الدروس وسيسارع للتمحيص في الأحداث لاستخلاص العبر من التجربة السابقة، وفي رأيي لا إمكانية لاندلاع حربٍ جديدة مفتوحة على كل جبهات القتال في الوقت الحاضر وحتى خلال الأشهر القليلة القادمة، لأن الحرب إذا كانت تعني بالنسبة للاحتلال مثلاً قتل آلاف الفلسطينيين لدفعهم للحقد على فصائل المقاومة، فهي أيضاً تعني بالنسبة للمقاومة المزيد من الجنود الأسرى أو المفقودين، وإدخال ملايين الاسرائيليين في الملاجئ حتى إشعار آخر!.
أما على صعيد الصراع في الخفاء، فهو يبدو واضحاً لأي متابعٍ للشأن الاسرائيلي والفلسطيني على حد سواء، فالاحتلال قال قبل أيام إن صاروخاً فلسطينياً أطلق من غزة تجاه البحر بتقنية الليزر وذو قدرة تدميرية عالية في إطار التدريب، والاعلام العبري أيضاً كشف عن محاولات لتهريب مواد خام أولية تستخدم لأغراض عسكرية كانت في طريقها لفصائل المقاومة عبر المعابر المحاذية لغزّة.
أما المقاومة الفلسطينية من جهتها فخرّجت بعد الحرب الأخيرة عدة دورات عسكرية لم تقتصر على جناح عسكري دون آخر، إضافة لمخيمات الأشبال الخاصة بالقسام والسرايا وأبو علي مصطفى.
ولعل مسألة "الدولفين" الأخيرة تدل على أن الاحتلال يجهّز نفسه استخبارياً بقدر ما استطاع، حيث عثرت القسام على "دولفين" صناعي اسرائيلي يحمل معدات تجسس وكاميرا مراقبة، وقالت عدة مواقع فلسطينية أنه يمتلك قدرة على تنفيذ عمليات اغتيال تحت المياه، وأغلب التوقعات تشير إلى أن الهدف من "الدولفين" كان عناصر "الضفادع البشرية" سواء بالاغتيال على أقصى تقدير، أو بالحصول على المعلوماتِ على أقل توقع.
هذا الصراع في الخفاء سيكون مقدمة الحرب القادمة، ومن يمتلك عنصر "المفاجأة" سينتصر، ومن يبدأ الحرب ولا ينجز الأهداف التي وضعها لنفسه سيخسر، أما في الوقت الحاضر فإن الحرب غير واردة، لكن التصعيد المؤقت يُمكن أن يرِد، عبر قصفٍ إسرائيلي هنا تقابله صواريخ فلسطينية هناك، لكن لن تتطور المجريات لحربٍ تستمر أسابيع طويلة على مختلف جبهات القتال براً وبحراً وجواً.