غزة- خاص قُدس الإخبارية: إن كنت تعيش في غزة، فأمامك خيارات معروفة منسوخة لقضاء العيد تأتي في مجملها متشابهة أحيانًا، فيما لو خرجت عن المجمل فإنها مألوفة أيضًا، إلا من أراد أن يصنع شيئًا مميزًا لزيادة " سيناريوهات قضاء العيد في غزة ".
الآن، لو لم تكن تعيش في غزة، فهذه فرصتك كي تقضي العيد بين جنباتها وفي ثنايا تصرفات أهلها وسلوكهم، ولنتنقل مع غزّيين مختلفون وكيف يقضون عيدهم منذ صباح اليوم الأول وحتى انتهائه، إن أردت ذلك هات يدك، واتبعني.
في التاسع والعشرين من رمضان وعلى مائدة الإفطار الأخير الذي لم يكن محسومًا أنه الأخير من عدمه، تتناقش العائلة عن إحساس بعضهم اليقيني عن العيد، فيقول أوسطهم "حاسس بكرة العيد"، ليرد أخيه بجانبه "لا لا بتوقع أنه بعد بكرة، شفت أنباء أنه يتعذر رؤية الهلال"، وما هي إلا لحظات حتى ينقطع الشك باليقين وتبدأ تكبيرات العيد تطوف المساجد متنقلة بين الأطفال والبيوت.
النساء يشددن الهمة، يؤمن أخيرًا بمقولة "لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد"، وبالمناسبة هنّ لا يؤمن بها طواعية، فما كان قد تأجل على أمل أن يكون العيد أبعد ليومٍ زيادة، يستوجب أن ينتهي الآن وخلال ساعات.
بين من تنهي تعزيلها، وتسعى لترتيب البيت وترتيب الأولاد وحلاقة شعورهم، وكيّ ملابسهم، وتفقد ما نقص من الأغراض" حلويات العيد، حلقوم، قهوة، مكسرات، تمر، فاكهة" وصولًا إلى استكمالات التأكيد على وجبات الفطور والغداء ليوم العيد.
"الفسيخ والسماقية" يحتلان عرش القمة في اليوم الأول، وان كانتا ليستا عامتين بالقدر الذي يتم تصويره، فلا ننسى أن هناك من لا يطيقون الفسيخ ولا يعرفون السماقية، حينها تبدو "الفتة أو الدجاج المحمر" وجبتهم الأساسية، وربما كانت الفلافل!
كل الأمور شبه متممة الآن، ما لا يمكن استكماله يتأجل للصباح إن أمكن تأجيله، كتحضير الجوارب مثلًا وتنسيقها مع كسوة العيد، في حين ربما يتذكر أحدهم أنه يحتاج غرضًا أو ليس لديه ما يلبسه للعيد، فإمكانه الخروج ليلًا وحتى الفجر"
الأسواق مفتوحة في غزة وممتلئة تمامًا بأولئك الذين يؤجلون أعمالهم حتى الرمق الأخير، والذين ضلا يتذكرون أنفسهم إلا حين تقع الواقعة"، مستثنى من ذلك من كانوا يقضون أيامهم في الاعتكاف في المسجد في رمضان، فلم يكن لديهم وقتًا للذهاب على السوق وقضاء احتياجاتهم.
التكبيرات تصدح الآن، -تسمعها يا من تتبعني؟!-، هناك في الناحية الشرقية بغزة، بيوت أخذت تردد التكبيرات بصوت مجروح، جرحتها غصة الفرح، فكبرت كثيرًا وبكت كثيرًا، معلنين قدوم عيد جديد وهم مجروحون بفقد ذويهم.
بكى منهم من لم يعيّد في بيته القديم، من لم يعيد مع أبيه، مع ابنه، من فقد صديقه الذي كان "يلفُ معه غزة من مشرقها لمغربها"، فيما على الجانب الآخر ضحكات تعلو كجرس يدق صوت الحياة في غزة، أحبال زينة معلقة، بلالين متطايرة، أطفال حملوا الألعاب النارية وأخذوا يركضون على آخر الشارع مرددين التكبيرات، وآخرين عاهدوا أمهم أن يذهبوا صباحًا لقبر أبيهم، لا عجب غزة بلد المتناقضات.
"عيون نامت عند منتصف الليل، فيما بقيت أخرى ساهرة فجرًا ليشهدوا قدوم الزائر الذي انتظروه شهرًا وهم صيام كنوع من كرمِ الضيافة، المستيقظ منهم ينبه النائم للصلاة، فتمام السادسة والثلث تكون صلاة العيد، "تجهزوا وتمشوّا للمسجد حتى الموعد ولا تنسوا التكبيرات" -هكذا توصيهم أمهاتهم-
مساجد غزة كثيرة على الرغم من قصف الاحتلال الإسرائيلي لنسبة منها، لكن أهم ما يُلاحظ هذه المرة، هي أن المصلين سيصلون على ركام مسجدهم كنوع من رد الجميل في العيد، فالعديد من المساجد وحدت صلاتها في الساحة الكبرى لمسجدٍ مقصوف.
صلاة العراء، وهي الصلاة التي تكون جمعًا بالناس في أماكن مكشوفة كبيرة وواسعة، تتسع لعدد كبير من المصلين وبهذا فهي فرصة لخلق أجواء التعايد بين أعداد أكبر من المسلمين والمحافظة على ما تبقى من تواصل اجتماعي ديني.
شرق غزة وغربها، في كل محافظاتها تقريبًا، تمتلئ الشوارع بأشخاص حملوا سجادات الصلاة ذاهبين للصلاة في العراء، فهذا المرة يخطب شيخ يحبه أو قائد في حركة مقاومة أو خطيب أو أب شهيد، يحدثوننا عن العيد في غزة وبشريات الأمل.
وفي كل مرة يختتم فيها الخطيب في غزة خطبته عن العيد تبقى أمنية واحدة هي ذاتها منذ وعيت على الدنيا، يردد بعدها المصلين كلمة "آمين" بشغفٍ يقيني دعوي منقطع النظير، فهذا جواب قلبي لأمنية احتوتها دعوة الإمام " اللهم حرر مقدساتنا وفك قيد أسرانا وارحم شهدائنا، واجعل العيد القادم في رحاب المسجد الأقصى" .. أصوات بكاء في الخلفية ودموع نساء.
تمت صلاة العيد، تصافح الناس، تهادوا، وزعوا حلواهم على الأطفال، حملوا بلالين الألوان، طارت في السماء بعضها، بقي أطفال آخرون يحملون بلالين بلون العلم لم تستطع كفه الصغيرة أن تفلتها، بقيت متمسكة بها طيلة الطريق وحتى الوصول.
من السنة النبوية أن يغير المصلي لصلاة العيد الطريق التي يمر بها لمسجده، أهالي غزة كانوا أقرب للنصيحة، ذهب بعضهم لزيارة أهالي الشهداء والأسرى صباحًا، فيما توجّه البعض إلى المقابر كي يلقوا التحية على من هم الآن عند ربهم.
وما إن انتهت مراسم الصلاة واجتمع الأهالي في بيوتهم وبدأت روائح الطعام تتداخل مع بعضها، فهذا اليوم الأول في الإفطار ولديه مراسمه بعد شهر صيام، عادت الجمعة ولمة العائلة ومحاولات الفرح حتى وان كانت مصطنعة لكنها محاولات عظيمة.
بعض الناس، يجدون في إقامة بيوت عزاء للميت في عيد الفقد الأول هو نوع من الإخلاص، متناسين أنهم نوع من الحزن الذي نهاها عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في العيد، يقدم الرجال واجب العزاء في الفقيد للمرة الثانية.
ساعات وتبدأ الزيارات ودقات الباب لاستقبال الضيوف المعايدين من الأرحام والجيران والمعارف، وحتى ساعات المساء، تبقى النساء يقدمن ضيافة المُعايد تلو الآخر، حتى نهاية اليوم، والبدء في التخطيط لليوم التالي، فيما يشقى الرجال وهم يدورن من بيت لآخر معايدين أرحامهم حتى المساء.
تتباهي كل أنثى بما صنعت من كعك العيد، أو ما أعدت من تجهيزات أو ما اشترت لبيتها وأولادها، فتقدم الكعك للضيوف باعتبارها إنجازها التاريخي الذي صنعته بروحها، ولنعرّج عن أزمة الكعك هذه المرة في غزة، فان الأهالي قد لاحظوا نقص كمية عجوة التمر وانقطاعها من السوق حتى ان بعضهن قد يأسوا من إنجازه وحُرموا عمله وأكله.
الحديث خلال جلسات المعايدة يدور عن ذكريات العيد الماضي، وعن أنباء سمعوها مؤخرًا، بعض السياسة لا بأس بها، وبعض المعايدات الاجتماعية، والمواساة لمن فقدوا ذويهم، حتى أن نقص عجوة التمر باتت حديثًا متداولًا بينهم، إضافة إلى الحديث عن الأسواق والكسوات وغزو نوع معين من بناطيل الجينز تسمى "الكهربا"، والأسعار وجمال الأطفال.
الأطفال والصبية والشباب لا يتقيدون بجلسة بيت أو لفات معايدة رسمية، فتجدهم يفكرون في الذهاب في "طشة مع رفاقهم" أو التوجه إلى مطعم معين لتناول وجبة مشتهاة في رمضان
الجدير ذكره هو ما نلاحظه من " أزمة شاورما" أيام الأعياد، فالمحلات متكدسة والزبائن كُثر بدوا كأنهم يقيمون غزوًا عسكريًا على محلات الشاورما في البلد، فمن الشرق إلى الغرب، لا يوجد محل غير متكدس-هذا مؤكد-!
الأماكن الترفيهية المعدودة لا مجال فيها لتخطو قدمك للأمام، من الشمال إلى الجنوب مدن ترفيهية إن صح تسميتها تجاوزًا، لكنها غير قادرة على استيعاب ربع عدد السكان على افتراض أن ربعهم يرغبون في الذهاب لمكانٍ ترفيهي.
"الشقاليبو" أرجوحة طفولية تاريخية، لا بد أن كل غزّي عرفها كاسمه، فهذا الذي دار بها مرة و"تشقلب" ينتظرها من العيد للعيد، فيما يخاف آخرون ركوبها ويكتفون بشراء الألعاب الصغيرة التي غالبًا ما تكون "مسدس لضخ الماء، أو عروسة أو (نظارة لاستكمال التشخيص)
حتى المساء، الشوارع مزدحمة جدًا، من زار أهله فقد زارهم، من لم يزور فقد أجلها لصباحية اليوم الثاني أو الثالث، لمّ حلوى من كل البيوت التي زارها، أصابته تخمة من تكرار الضيافة ذاتها في كل البيوت أو ما يشابهها.
هذه طقوس اعتيادية روتينية مألوفة قد يقوم بها غالبية الشعب برغم دماره وحصاره، إلا أن هناك أناسًا قرروا أن يدوروا بأيديهم عجلة الحياة للأمام بالأمل والقوة، زيارة المسنين والمرضى والتعايد على الأطفال وتقبيلهم، وتقديم الهدية والعيدية وتعليق الألوان ورسم البسمة على وجوه الناس في يوم مبارك، وتقديم وردة مكتوب على غلافها "كل عام وأنتم بخير، أعاده الله علينا وقد تحررت مقدساتنا".